فتح راغب عياد، رائد فن التصوير المصرى المعاصر، 1892- 1983، طريقاً واسعاً أمام الأجيال المتتالية من الرسامين حتى اليوم، لإعادة اكتشاف مفردات وجماليات البيئة الشعبية -والريفية خاصة- بجذورها الممتدة عبر تراث الفن المصرى القديم، ذلك الطريق الذى شقه فى سياق مشروع النهضة الوطنية وواكب به معطيات ثورة 19 وروح البعث الحضارى، وقد عمل هذا المشروع على تأصيل الهوية المصرية حتى تجلت من خلال إبداعات الفن والأدب والموسيقى والفكر، ونضالات التحرر السياسى والاجتماعى. أحفاد عياد لا يزالون يولدون جيلاً بعد جيل، ويشقون طريقهم بشجاعة فى أرض تغيرت معالمها الثقافية والذوقية، بسيادة الأنماط الاستهلاكية الضحلة أو بتقليد أساليب الحداثة الغربية بعيداً عن روح الوطن وتراثه، ويتحملون -بإيمان- اتهام الأجيال الصاعدة لهم بأنهم يغنون أغنيات تخطاها الزمن، وإيمانهم ينبع من قناعتهم بأن بطاقة الهوية المصرية لا تزال صالحة لعبور الحدود إلى العالم أجمع، مادامت استلهمت قيم الجمال العابرة للزمان والمكان، واستوعبت روح الحداثة وليس كساءها الظاهرى، كما يؤمنون بأن قضيتهم الأولى هى التواصل مع وجدان شعبهم، قبل التواصل مع أذواق «البيناليات» الدولية. معرضان جديدان أقيما بالقاهرة مؤخراً يؤكدان هذا المعنى؛ الأول للفنان مصطفى عبدالفتاح «1943» الأستاذ بكلية الفنون التطبيقية، وأقيم بمركز الجزيرة للفنون، والآخر للفنان أحمد عبدالكريم «1954» الأستاذ بكلية التربية الفنية، وأقيم بقاعة الباب بساحة دار الأوبرا، والمعرضان نظمهما قطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة. يعرض مصطفى عبدالفتاح لوحاته التى أنتجها بمختلف الخامات عبر مسيرته الفنية الممتدة قرابة 40 عاماً، يحتل الموضوع الريفى دور البطولة فيها، بأسلوب تعبيرى أقرب إلى العفوية والتلقائية، يُعيد صياغة ملامح الواقع ومشخصاته.. من إنسان وحيوان وطير، ومن مسطحات الحقول الممتدة إلى قوارب الصيادين، ومن مشاهد العمل فى الزراعة وقطعان الحمير والأبقار والماعز وهى تمضى فى اتجاه واحد، ومواكب عودة الفلاحين بمواشيهم وأحمالهم للبيوت، إلى مشاهد النزهة للأطفال والكبار أو مشاهد الأمومة والأسرة. ومع شدة التصاقه بالأرض، وتأثره بمشاهد التصوير الجدارى فى مقابر مصر الفرعونية، وبأسلوب راغب عياد، فإنه لا يقدم صوراً تسجيلية للواقع، بل يقدم ما يشبه الأطياف الهائمة على أديم اللوحات، بحس شاعرى أقرب إلى الخيالات الغامضة أو إلى عالم الحلم، عبر شفافية العناصر وتداخلها، وقد يسوقه هذا العالم الحلمى إلى التركيب البنائى للوحة بعناصر متناقضة تحيلها إلى الرمزية، إذ تجمع بين مشخصات واقعية وبين رموز سوريالية، منها امرأة عارية تخرج مندفعة من باب ضيق حاملة غزالاً أحمر وقطاً أسود، يقودها طائر الهدهد، وبين قدميها هرم صغير، وفى الأفق مركب شراعى وسط بحيرة.. وهكذا نقرأها فى مجملها كترنيمة للحرية والانطلاق. أما أحمد عبدالكريم فيواصل -من خلال لوحات رُسم كل منها بلون واحد: الأسود أو البنى- ترنيمته لطائره المفضل فى معارضه السابقة وهو الهدهد، رمزاً للحكمة الموغلة فى القدم، وللأسرار الخفية فى الطبيعة والكون، لكن الفنان لا يكتفى باللعب على شكل الهدهد؛ بتاجه الملكى ومنقاره المقوس وريش الطاووس المزركش، بل يتمثله فى شكل حروف لغة سحرية تمتد سطوراً بإيقاعات نغمية غامضة، تستدعى بعض رموز الكتابة الهيروغليفية، وعناصر من الواقع الطبيعى مثل السمكة والجمل والحمار والشجرة والقلب والقارب وزجزاج النهر وسنابل القمح... لقد تحولت اللوحة إلى سطح جرافيكى تنتظم فوقه شرائط ممتدة لما يشبه خطوط الوشم وزخارف الوشى على حواف الأثواب التراثية، أو شرائح النحاس المحفورة بنقوش طوطمية ترتبط بطقوس سحرية، ويتماوج اللون الواحد بدرجات تعلو وتخفت، معطية إيحاء بالعتاقة الممتدة فى جوف الزمن، لهذا أطلق الفنان على معرضه عنوان «أبجدية دهشور» فى إشارة إلى هذه المنطقة التى تحتفظ بأسرار الحضارة الفرعونية ويتخذ فيها مرسمه. لكن حنينه إلى الهدهد لا يكف عن إغوائه، فيستدعيه كسرب يربض على الأرض، يشبه انعقاد مؤتمر كونى للحكماء يجتمع لتقرير مصير العالم، تتوسطه عدة بومات كمراقبات!.. وفى لوحة أخرى نرى البومة بطلة تسيطر على المساحة بقوة إشعاع وسحر عينيها، فى مواجهة طيور الهداهد التى اكتست باللون الأبيض، وكأنما تقتضى الحكمة أن تعرض الهداهد مبادرة للسلام على سلطانة الظلام!.. غير أن الهداهد الحكيم -فى لوحة ثالثة- يحلق فوق حصان يحمل هودجاً، وبدلاً من أن نرى العروس بداخله، نجدها تعترض طريقه عارية وهى ترقص بغواية الساحرات، فلا نعرف هل كانت خيالا مخادعاً ظهر ليحرف مسيرة الهدهد عن هدفها، أم كانت وهماً لعرس كاذب وقع الهدهد الحكيم ضحية له!