أتيحت للفنان الشاب أشرف ابراهيم فرصة الاقامة لمدة ثلاثة أشهر عام 2007 في مدينة فيينا النمساوية، بدعوة من وزارة الثقافة هناك، في اطار مشروع »الفنان الأجنبي المقيم«.. وبعد أربع سنوات أقام له قطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة المصرية معرضا شاملا ضم مئات اللوحات التي رسمها بعد عودته إلي مصر متأثرا بتلك الرحلة، وسط احتفالية غير عادية افتتحها وزير الثقافة د.عماد أبوغازي »قبل أن يقدم استقالته« ودبلوماسيون من الدولتين ومجموعة رعاة المعرض من كبري الشركات الرأسمالية، وهي ظاهرة تحدث لأول مرة في مصر! حمل المعرض الذي أقيم بين سبتمبر وأكتوبر الماضيين عنوان »خرائط الذاكرة«، وضم الكتالوج الفاخر له كلمات احتفالية لكل من وزيري الثقافة في البلدين إلي جانب مدير المركز الثقافي للنمسا بالقاهرة، بما يؤكد الطابع الرسمي والمؤسسي لتنظيمه، وهو نموذج نأمل أن يتكرر في معارض الفنانين المصريين بعيدا عن الحشد السياسي الخارجي! الخرائط هي خرائط حقيقية لمدينة فيينا.. عشرات ومئات منها طبعت علي مساحات ضخمة من البلاستيك، تشمل أحياء المدينة وشوارعها وميادينها وحدائقها ومعالمها المختلفة، والذاكرة هي رموز وملامح لمخزون خبرة الفنان التي قام بإسقاطها فوق تلك الخرائط، وقد بدت خلفية باهتة لرسومه حينا، وأشكالا بصرية بارزة تتشكل بها الرسوم حينا آخر، لنجد أنفسنا إزاء نمص بصري يقرأ بلغتين مختلفتين: لغة الخرائط الصماء لمدينة أوروبية لا نعرفها، بما تحمله من علامات واشارات وخطوط جغرافية، ولغة الأشكال المرسومة فوقها بطاقة تعبيرية بالغة الحيوية والجيشان، قد تميل خطوطها وتكويناتها إلي التجريدية، لكنها توحي غالبا بإيماءات تشخيصية، وبإسقاطات لمعان متباينة تنم عن هواجس نفسية أقرب إلي الأشباح، لكنها أشباح أليفة مؤنسنة، تحوم وتحلّق فوق مسالك ودروب الخرائط بدون أن تهاجم أو ترعب.. لعلها تعكس - أكثر - جيشان نفس حائرة، وربما مشتتة بين وطن حقيقي لم يمنح صاحبها الأمان، ولم يحقق له الأماني، ووطن افتراضي مؤقت في أرض غريبة، أعطاه في ثلاثة أشهر مالم يعطه له وطنه الأصلي في 35 عاما! لكنه سجل علي الخرائط الأجنبية ما تحمله ذاكرته المصرية وحدها، وكأن فيينا كانت محك الاشتعال النفسي والإبداعي بداخله ليعيد اكتشاف أعماقه الدفينة في مصر، وقد تعكس رسومه قدرا غير قليل من الأحلام والمخاوف والتناقضات ممتزجة، وربما فجرت ثورة 25 يناير في داخله - بعد ذلك - الكثير من هذه الهواجس والرؤي المختلطة، حين ضلت الثورة طريقها إلي أهدافها، ما استدعي من ذاكرته الأوروبية خريطة طريق للخلاص الروحي، أو أملا للخروج من المتاهة. ان خرائط المدن في أوروبا رمز لوضوح الهدف وكيفية الوصول إليه، فلا يخلو منه جيب أي مواطن في أي مكان، علي عكس المصري الذي لا يتعامل مع مثل هذه الخرائط، ومن ثم يتخبط كثيرا في بحثه عن أي عنوان، وبقدر ما يضيع منه المكان، كذلك يضيع الزمان، فيصل متأخرا عن موعده، وقد يفوته القطار!.. وهي رسالة رمزية من الفنان تعكس حال مصر كلها.. ربما.. وربما لا! لكن يبدو من عناصر اللغة الرمزية في لوحات المعرض ميلها إلي إظهار رموز طوطمية من طقوس سحرية قديمة، مثل الأقنعة والحيوانات والطيور والزواحف والعلامات الغامضة والأشكال الهندسية المتداخلة من دوائر ومثلثات وعيون شاخصة وأبدان راقصة ذات تشوهات جسدية بارزة أو هياكل عظمية منقرضة، وكأن الفنان يغازل بهذه العناصر الصورة الذهنية في العقلية الاوروبية عن الشرق وأفريقيا وكأنها جزء من الثقافة المصرية، لكنه - إلي جانب تلك العناصر - يستعين برموز مصرية قديمة، مثل الأهرامات وحروف اللغة الهيروغليفية وزجزاج الماء الدال علي نهر النيل، وبأخري شعبية مثل كف اليد والديك والعصفور والهلال وغيرها.. وان كانت هي كذلك جزءا من الصورة الذهنية لمصر في الثقافة الأوروبية. ولاشك أن تجربة أشرف إبراهيم تقوم علي نزعة سادت في الفن الأوروبي الحديث وتعود بجذورها إلي المدرسة التكعيبية في أوائل القرن العشرين، بتمردها علي الأنماط والوسائط التقليدية، واستدعائها لثقافات شعبية وبدائية غابرة، وإعادة انتاجها بمخلفات ونفايات الحياة اليومية، وبالرسم فوق صفحات الجرائد وأوراق الإعلانات، متحدية نوازع الأناقة البرجوازية، وساخرة من فكرة الخلود لأعمال الفن وحتي من قاعات العرض والمتاحف، ثم عادت هذه الاتجاهات إلي الظهور في الثلث الأخير من القرن الماضي، داعية إلي إسقاط فكرة تسويق الفن وفكرة الاحترافية للفنان، متطلعة إلي إحياء مظاهر الفطرة البدائية والنماذج غير القابلة للتسويق التجاري. لكن فناننا الشاب ينسي أن مثل تلك الظواهر الأوروبية تعكس تشبع الثقافة الغربية وجمهور النخبة وسأمهم من فنون المتاحف البرجوازية مع أفول عصر الحداثة وبزوغ عصر ما بعد الحداثة، ليحل محلها نوع من الرغبة في إحداث الصدمة الفكرية أو الفوضي الخلاقة، معتمدا علي المستهجن وغير المألوف من الخامات والأساليب.. فيما نحن في مصر لم ندخل حتي الآن عصر الحداثة، ولم يستوعب جمهورنا - حتي نخبته المثقفة - فنونها الجميلة علي امتداد القرن العشرين، فوق أن ذائقتنا الجمالية لاتزال موصولة بحضاراتنا وثقافاتنا المتأصلة في النفوس.. فهل ضلت خرائطه إلي هذه الذائقة؟!