كانت وتيرة التدهور أسرع من قدرتنا على تناول كافة الانطباعات بشأن الذى حدث فى الخرطوم. فقد زادت حدة وقسوة الفرز لدرجة أن أى صوت يحاول التشبث بأهداب العقل والمنطق سيصطدم بقوة الغضب والرغبة العارمة بشهوة الانتقام وسيتهم فورًا إما بالخيانة أو الانبطاحية، أو على الأقل العيش فى أوهام بالية. قبل معمعة الخرطوم خرج مسئول كبير فى أحد الصحف الجزائرية، الشروق على ما أعتقد، التى كان لها دور السبق فى إحماء النار، ليزف إلينا الإنجاز غير المسبوق الذى حققته صحيفته باعتبارها أول صحيفة عربية تتخطى حاجز المليون نسخة توزيعًا يوميًا. ساعتها كنت أود أن أسأل هذا الإعلامى المغوار هل أنت مقتنع حقًا بأن صحيفتك قد باتت بين عشية وضحاها فى مصاف كبريات الصحف العالمية الأوسع انتشارًا لمجرد استغلالها المزرى لمباراة فى كرة القدم وفبركة صور وأخبار وحوارات. هذه الصحيفة على وجه التحديد تفننت فى فبركة الإشاعات بأسلوب ممنهج وفى غاية الانضباط. وبعد المباراة إذا بمسئول سياسى كبير فى البرلمان الجزائرى يتهافت هو الآخر على تسييس "الصراع" الكروى فيفتى بأن للجزائر مواقفها التى لا تتفق مع المواقف المصرية خصوصًا فيما يتعلق بالملف الإيرانى والموقف من حماس. لذا عمدت مصر إلى تلك الحملة الإعلامية على بلاده ربما للانتقام منها. كم كان عجيبًا وسطحيًا هذا الخلط، لكنى أستدرك وأقول أنه لا مجال للتعجب فى هذه الأزمة فكل شىء فيها مباحًا. فالمنحنى الذى اتخذه هذا المسئول لا يبعد كثيرًا عن المنحنى العام للإعلام الجزائرى والذى اعتمد أساسا على إيجاد رابط فى الوعى العام الجزائرى بين مصر وإسرائيل، فالمصرى هو الخائن، وهو صنو لليهودى المحتل فهو العدو الأول المهدور دمه سلفا. ومن اليسير أن تجد خطًا واضحًا يربط بين مقولة الإعلامى المغوار والبرلمانى الفصيح ويزداد وضوح قتامة الصورة حين تطلع على مداخلات البسطاء من الجزائريين على الإنترنت وغيرها من وسائط الإعلام لتدرك أن أغلبهم، وقع فريسة لهذا المخطط الذى اعتمد تحويل المصريين إلى أعداء. وهنا تجدر الإشارة إلى أن نتائج مسلسل المباريات كانت عاملا ثانويًا لا قيمة له. بل هو الحدث نفسه الذى استثمر أيما استثمار. وأعتقد أن قضية حقوق الأمازيغ، ومشاكل الفساد، ونهب أموال النفط والغاز، والإرهاب، وقضايا الديمقراطية، سوف تظل لسنوات أقل أهمية بكثير من التصدى لحملة الأعداء المصريين الذين وحدت هجمتهم الكروية الشرسة الأمة الجزائرية. سوف ينسى الجزائريون مذابح التسعينيات بكل بشاعتها وبكل الغموض الذى مازال يكتنفها ليتحدوا لصد غزوات حسن شحاتة، وأبو تريكة وعمرو زكى وزيدان. وفى مصر تبدو الأمور أقل حبكة وأكثر عفوية، وإن كادت تتساوى فى الرغبة من تحقيق أكبر عائد استثمارى من سلسلة المباريات، وخاصة على مستوى القنوات الفضائية. إلا أن القائمين على تقييم فرص الاستثمار الأصفر تلك اسقطوا من حساباتهم احتمالات الخسارة فى الخرطوم. فلم يكن هناك صوت واحد إلا وأكد على أن الانتصار قادم لا محالة، حتى مذيع مباراة القاهرة بح صوته وهو يهتف أن جوهانسبرج تنادينا. كما لو أن عقد كأس العالم لا يكتمل إلا بوجود الفريق المصرى. فلما خسر منتخبنا بشرف، بهتوا وأسقط فى أيدهم ثم جاءت الأحداث البشعة فى شوارع الخرطوم لتزيد من تخبطهم وتسرع من عجلة سقوطهم الحر. كانت سلسلة المباريات وتوابعها المؤسفة دجاجة تبيض ذهبًا لتلك الفضائيات. لدرجة أن الفواصل الإعلانية لم تعد كافية، فأصبحنا نرى المذيع يتحدث عن "مجازر" الخرطوم دون أن يخجل من إعلان لرقائق البطاطس أو الكاتشب التى يظهر خلفه. ربما يكونوا قد استفادوا منها وربما يكونوا قد سجلوا نقاطًا، لكنها بلا شك كشفت مدى جهل عدد كبير من العاملين فى برامجنا الحوارية بأبسط قواعد العمل الإعلامى وكيفية التعامل مع الأزمات وإدارتها. من بين أكثر الانطباعات حدة، ذلك الشعور الطاغى الذى ينتاب المواطن المصرى بأنه غير مهاب الجانب بين العرب، وأن الوقت قد حان للوقوف بحزم أمام كل من تسول له نفسه المساس بكرامة المصريين، كما لو كانت كرامتهم تمتهن وتداس بالنعال كل يوم وليلة فى بلاد الغربة التى ذهبوا إليها بمحض إرادتهم بحثا عن لقمة العيش. ودعونى أقول إن هذا الشعور السلبى مبالغ فيه بشدة. فهناك ملايين المصريين فى كافة أصقاع الأرض وفى كل البلدان العربية يعملون ويجتهدون ويلقون كل احترام وتقدير فى أماكن عملهم. ويجب ألا نسمح لأحد بأن يتاجر أو يزايد فى هذا الموضوع. نعم، الأغلبية الساحقة من العرب تكن كل احترام وتقدير لمصر وللمصريين. ومما لا شك فيه أن هذه المكانة هى ما تقلق البعض أحيانًا ولا سيما مرضى حب الظهور ومدمنى الأضواء والباحثون عن أى مكان أو أى دور، والذين لا تخلوا منهم أى جنسية عربية أو غيرها. وفى اعتقادى أن المصالح المشتركة للعرب بما فيهم المصريون طبعًا هى ما يبقى على هذا الاحترام ويصونه، وليس الحب لله فى الله. نعم ربما تكون سماحة المصرى وحسن معاشرته وخفة ظله من الأرصدة المهمة التى تحفظ علاقته بإخوانه من العرب، لكنها ودائع مغلقة ربما تنفع وقت الضيق، وليست حسابات جارية يمكن السحب منها دائما على المكشوف. وتظل المصالح المشتركة هى الأساس فى ترسيخ الاحترام المتبادل. وأرجو أن نكون عرفنا بعضًا من الذين هزموا فى الخرطوم...، وللحديث بقية