كلمة السر التى تقض مضاجع الحزب الوطنى، وتصطف لها قياداته، هى حكم مصر! تراهم جميعاً على لسان رجل واحد يسخرون من أى متكلم عن هذا الموضوع، وكأنما جاء شيئاً إدّا. ثم هى عبارة شهيرة أثيرة لديهم جميعاً يترنمون بها ويتبارون فى السبق بإعلانها عبر أكبر عدد ممكن من وسائل الإعلام، ألا وهى "حكم مصر ليس سهلاً"!! ولأننى قد ألزمت نفسى حسن الظن فى نوايا الآخرين قبل أن أشرع فى الشك الحميد، فقد أخذت أقلب هذه العبارة على كافة جوانبها، علّى أقف على رأس الحكمة التى دلف إليها هؤلاء الأفذاذ من حملة ألوية النصرة المقدسة لحاكم مصر أياً كان، وفى أى زمان، فوجدت أنها لا تحتمل إلا أحد معنيين: فربما يقصد مرددو هذه العبارة تمييز حكم مصر تحديداً عن حكم أية دولة أخرى، بدءاً من إمارة موناكو وانتهاءً بالولاياتالمتحدةالأمريكية. فقد آمنوا أن فى مصر شيئاً يدعو إلى التفرّد ولا تصلح فى إدارته أنظمة الحكم التقليدية الشهيرة كالنظم الرئاسية والبرلمانية.. ومشتقاتها من أنظمة مختلطة، ذلك أنهم يظنون بل يعتقدون فى أن مصر كائن شاذ عن أية قواعد، إما لأنها أعظم من الولاياتالمتحدة أو لأنها أصغر من إمارة موناكو! وهنا أقف عند هذا الشعور الغريب بالتوحّد وألحظ فيه أعراضاً مرضية خطيرة أوثر ألا أستفيض فى وصفها. أما المعنى الآخر الذى ربما انطوت عليه هذه العبارة، فهو أن حكم أية دولة هو أصعب نسبياً من أى عمل إدارى أو قيادى آخر، وهو أمر بديهى، لا يحتاج إثباته إلى كل هذا الصخب! فمن منا لا يقر بأن قيادة الدول هى أشق وأدق الأعمال، خاصة إذا اضطلع بها ذوو الهمم المخلصة والذمم البيضاء. ولما كان الأمر كذلك، فإن هذا الشعار الممل لا يحتمل إلا أن يعكس حالة مرضية أو يعبر عن بديهية ساذجة لا ينكرها طفل فى السابعة من عمره. وإذا سلمنا جدلاً بالصعوبة المطلقة والنسبية لحكم مصر، فقد وقع أصحاب هذا الرأى فى خطأ بالغ إذ أثبتوا عن غير قصد ما أرادوا نفيه واستبعاده. فهذا البلد صعب المراس لا يستطيع حاكم ديكتاتور أن يتولى رئاسته منفرداً، وهو لذلك فى أمس الحاجة إلى أكبر قدر من المشاركة الشعبية فى الحكم. وهو الأمر الذى بح صوت كثير من المفكرين وقيادات المعارضة وهم يؤكدونه. فأى من الأفكار التى أثيرت مؤخراً بغية إنقاذ البلد من عنق الزجاجة مهما تباينت فى التفاصيل فقد اتفقت على خطوط عريضة تستبعد حكم الفرد، وتدعو إلى مشاركة الشعب، من خلال برلمان يعبر بصدق عن رغبات مختلف فئاته. ومرحلة انتقالية تقيل البلاد من عثرتها، وتضع عقداً اجتماعياً جديداً. ما أجمل وقع هذه الأحلام! هل ضننتم علينا حتى بالرجاء؟ فكأنك بولدك توبّخه وتحمله على أن يستذكر دروسه، فيسخر منك ويرفض المذاكرة لأن الامتحان جد صعب!! انطلقوا أيها الحزبيون بأهازيج النصر على فلول المعارضة، جرّحوا ما شئتم شهادة الرجال، واسخروا ما شئتم من أحلام الخلاص والحرية، وإذا خليتم إلى أنفسكم ليلاً تباروا ما شئتم فى ناديكم بتلبيس الحقائق، وليعلو بعضكم فوق بعض درجات، بما حقق من نصر ساحق لصالح حجته وبراعة منطقه! ولكن.. أستحلفكم بالله لا بعزة فرعون، أن تقرّوا قليلاً، وأن تنتصروا للعدالة كما يعرفها الله على السياسة كما تعرفونها. ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا ولو لعام واحد، نتنفس فيه الصعداء. عام تنقشع خلاله السحابات السود. عام لا تعلو فيه صيحات النفاق على تسابيح الوطن. أستحلفكم بالله لا بعزة فرعون أن تلزموا الصمت أو قولوا حسناً، فإن هذا البلد المكلوم قد بلغ به الأذى مبلغاً عظيماً لا تغنى نظرياتكم ولا فلسفاتكم عنه شيئاً. أكرموا الوطن الذى علّمكم الحجة التى تطعنوه بها. أكرموا الشعب الذى ألزمكم الشورى التى تعبثون بها، ولا تكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً. خبير بالمحاكم الاقتصادية