أعيش فى مدينة ميونخ الألمانية منذ عام تقريبا، ومن أجمل الأماكن التى تعجبنى هناك هى حديقة القرية الأوليمبية وبالتحديد جبل جميل جدا يتسلقه زوار الحديقة ليستمتعوا من فوقه بنظرة "بانوراما" على كل المدينة. هو ليس مثل جبل الأوليمب ولا قمة إيفرست، بل هو هضبة صغيرة لا تتعدى فى علوها مائة متر. ولكن صارت لهذا الجبل عندى دلالة رمزية كبيرة، فهو جبل صناعى بناه سكان ميونخ من حطام المنازل الناتج عن تدمير المدينة فى الحرب العالمية الثانية. كنت أقف على قمة هذا الجبل منذ أيام، وفجأة وجدتنى أتذكر مقولة الشاعر أدونيس التى فجر بها جدلا كبيرا منذ شهور حين ادعى أن الحضارة العربية دخلت طور الانقراض. كنت أبحث عن تعريف جديد لمعنى الحضارة، لأن تعريف وول ديورانت مؤلف "قصة الحضارة" لم يكفنى، حيث إنه يربط الحضارة بالمدنية، وبالتالى بالتقدم التقنى والعلمى. وهو تعريف أقرب للكلمة العربية التى تعنى "الإقامة فى الحضر" أو التمدن. فى حين يرى أرسطو أن الحضارة هى أى شىء لم تخلقه الطبيعة، أى كل شىء خلقه الإنسان بيديه سواء إيجابياً أم سلبياً. وقد وهبتنى هضبة القرية الأوليمبية بميونخ تعريفا جديدا وخاصا جدا: وهو أن الحضارة هى قدرة الشعوب على خلق شئ جميل من أنقاض شىء قبيح. كان بإمكان الألمان أن يتباكوا على أطلال مدن ميونخ ودريسدن وهمبورج ونورنبرج، وأن يصبوا لعناتهم على الحلفاء، ولكنهم أدركوا سريعا أن البكاء والعداء لا يفيدان ففتشوا عن أسباب مأساتهم الحقيقية ثم شمروا سواعدهم وأعادوا بناء دولتهم فى سنوات بسيطة حتى صار اقتصادهم أقوى من اقتصاد فرنسا وانجلترا اللتين انتصرتا على ألمانيا فى الحرب. أعلم أن هذا التشبيه ربما يستفز الكثيرين وقد يجلب علىّ الإتهام المعهود بأنى أتغزل فى الغرب وأنبهر به. ولعلى أهدئ من روعكم، حين أقول إنى لا أرى الغرب كمجتمع مثالى ولدى انتقادات كثيرة للثقافة الغربية أدونها حين أكتب باللغة الألمانية، ولكن ليس هذا موضوعنا هنا. ماشى.. بلاش الغرب خالص! ولنذهب إلى تايوان، وبالتحديد إلى الجامعة التايوانية. بنى اليابانيون هذه الجامعة عام 1928 حين كانوا يحتلون تايوان، وكانت هذه هى الحسنة الوحيدة التى فعلها الاحتلال اليابانى، فلم تمض سنوات حتى ارتكب اليابانيون أفظع المجازر والجرائم وتركوا تايوان خاوية على عروشها. وعلى عكس ألمانياواليابان، فإن تايوان لم تتلق أية معونات من الغرب لإعادة بناء بلدها بعد انتهاء الحرب، بل دخلت فى صراع جديد مع قوة عظمى جديدة هى الصين حول استقلالها. ومع ذلك تمكن التايوانيون من خلق مجتمع مدنى ديموقراطى له اليوم مكانته فى مجال الاقتصاد. وكان التعليم هو العمود الفقرى لإعادة بناء هذا البلد. لم يدمر التايوانيون الجامعة اليابانية انتقاما لوحشية اليابان فى الحرب بل طوروها حتى صارت اليوم على قائمة أفضل جامعات العالم، بل وصارت تتفوق على كل جامعات اليابان. والآن دعونا نعود إلى نبوءة أدونيس حول انقراض الحضارة العربية. كانت حيثياته لهذا الحكم القاسى أن الطاقة الخلاقة لدى العرب انتهت وأنهم توقفوا عن الإسهام فى التراث الإنسانى. قبل أن نوجه له السب والإتهام دعونا نختبر ما قاله بعقلانية. أليس صحيحا أننا صرنا لا ننتج العلوم؟ ألا نستهلك منتجات المدنية والحداثة ونرفض روحها؟ وروح المدنية والحداثة هى الحرية الفردية وحرية البحث العلمى والفكر والمساواة التامة بين الرجل والمرأة، والقدرة على نقد الذات ونقد التراث. ولكننا بدلا من ذلك تجدنا نتمسك بما يسمى ب "ثوابت الأمة". ويعلم الله أنى لا أدرى ما هى ثوابت هذه الأمة بالظبط. ثوابت الأمة التى أعرفها منذ نعومة أظافرى هى الرئيس مبارك وأحمد فتحى سرور. قبل أن نتفق أو نختلف مع أدونيس دعونا نتذكر نظرية ابن خلدون حول طفولة وشيخوخة الحضارات. علينا أن نعيد قراءة التاريخ لنرى كيف سقطت حضارات السومريين والفراعنة والإغريق والمايا. نعم كلها سقطت بعد أن هاجمتها حضارات أخرى من الخارج ودمرتها، ولكنهم فككوا أنفسهم بأنفسهم من الداخل قبل ذلك ولم يواجهوا أسباب ضعفهم فكانوا فريسة سهلة للآخرين. ثم علينا أن نعيد قراءة التاريخ الإسلامى لنعرف لماذا تفوقت الحضارة الإسلامية فى قرون الإسلام الأولى، ولماذا تخلفت عن ركب الحضارة اليوم. النظرية السائدة تقول إن الإسلام جعل من أمة بدوية جاهلية منارة للثقافة والعلوم، وإن سبب التقدم هو تمسك المسلمين حينها بكتاب الله وسنة رسوله. وهذه نظرية منقوصة من وجهة نظرى. فإذا نظرنا إلى المدن التى ازدهرت فيها العلوم والفلسفة فى العصر "الذهبى" الإسلامى لن نجد بينها مكةوالمدينة مهد الإسلام، ولكنها كانت دمشق وبغداد ثم القسطنطينية فيما بعد، وهى مدن لم تكن حديثة العهد بالحضارة ولكن كان لها تراث طويل فى ظل حكم البيزنطيين والفرس. وكانت عبقرية الحضارة الإسلامية حينها أن تبنى على أساسات تلك الحضارات وتترجم تراثها وتستفيد منه. ورغم الحروب والصراعات لم تعزل الحضارة الإسلامية نفسها حينها عن العالم ولم تقهر أقلياتها بل استفادت من خبراتهم ولغاتهم، فكان معظم علماء المسلمين فى تلك الفترة من أصل فارسى أو سريانى أو يهودى. إذن كان العلم والترجمة والانفتاح على العالم هى أسباب تقدم الأمة وليس فقط التمسك بالإيمان. ولو عكسنا الصورة لوجدنا أن غياب هذه الأسباب اليوم هو سر التخلف. أصبح "الآخر" بالنسبة لنا مجرد عدو يتربص بنا الدوائر من الخارج أو "ذِمّى" يجب محاصرته والتضييق عليه فى الداخل. صرنا نعظم ذواتنا بشكل مبالغ فيه لنخفى شعورا دفينا بالهوان والنقص أمام الآخرين. صرنا لا نبحث عن تفسيرات لإخفاقتنا المتتالية، بل نكتفى بالغضب على هزيمة وزير فى معركة اليونسكو أو على فتاة ألمانية تافهة تسب القرآن. كان يسمينا الأوروبيون فى القرون الوسطى "البناءون" لروعة المعمار الإسلامى آنذاك، أما اليوم فأرى أننا توقفنا عن البناء ونجلس على أطلال تاريخ مضى ونغنى "ظلموه". أصبحنا لا نقوى على لوم أنفسنا فنلوم الحملات الصليبية والتتار والاستعمار وأغشية البكارة الصينية. صرنا نحاصر أنفسنا بأنفسنا فننظر لكل نقد من الداخل على أنه خيانة ولكل نقد من الخارج على أنه إعلان للحرب. نعم لقد سحبنا كل رصيدنا من بنك المدنية وأكثرنا من الديون، وآن الأوان أن نشهر إفلاسنا. وإشهار الإفلاس يعنى عملية جرد نتخلى بها عن حقائب ثقيلة نحملها على ظهورنا فلا نقوى على السفر. علينا أن نقول وداعا لصور كثيرة مغلوطة نحتفظ بها فى أذهاننا لحضارتنا وللعالم من حولنا. علينا أن نقول وداعا لرموزنا وأبطالنا أمثال أحمدى نجاد وصدام حسين وحسن نصر الله ومنتصر الزيدى. وداعا لكل من يخدرنا بفكر متعفن من فوق منابر السياسة أو على شاشات الفضائيات. علينا أن نودع مفهومنا القديم للشرف والكرامة ونستبدله بمفهوم جديد أكثر نفعا لنا. علينا أن نحرر مقرراتنا التعليمية من هذه المناهج الانفصامية التى تدعو للتسامح والتعددية والمواطنة من ناحية، وتقسم العالم إلى كافر ومؤمن من ناحية أخرى. نعم علينا أن نقول وداعا لثوابت الأمة إذا كانت ستقف عائقا أمام تحررنا وتقدمنا! آن الأوان أن نشهر إفلاسنا، لعلنا نبدأ بداية جديدة على أسس جديدة بعيدة عن النفخة الكدابة والمشاعر المتقيحة.