كثيرون مثلى ابتلُوا بقضاء وقت طويل فى الميكروباصات متنقلين بين مقار العمل حتى يعودوا إلى بيوتهم فى وقت متأخر من الليل، لكى يبدأوا رحلة العناء هذه صباح اليوم التالى.. هؤلاء جنود مجهولون بالفعل، ليس لأنهم يتحملون فوق طاقاتهم من العمل المتواصل لكى يتحصلوا على قوت أولادهم فقط، ولا لأنهم يتحملون مسئوليات جساماً، ولا لقدرتهم على التوفيق بين مجالات عمل يصعب التوفيق بينها، ولكن فوق كل ذلك لأنهم يُضطرون إلى سماع أغانٍ هابطةٍ يجبرهم السائقون على سماعها، كأنها ضريبة ركوب الميكروباص. ولكى تتأكد من أن هذه الأغانى فرض عين جرِّب أن تطلب من السائق أن يخفض صوت الكاسيت.. فضلاً عن أن يغلقه نهائياً، أو أن يغير (المطرب) بآخر من هؤلاء (المتفق عليهم) كأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفيروز.. ولا تندهش إذا ما صرخ فى وجهك لينبهك إلى أنه حرٌّ يستمع إلى ما يشاء، وأنك لم تشتره ولم تشتر السيارة، ومهدداً إياك بأنه سوف يرميك فى الشارع فى هذا الوقت المتأخر! إلى وقت قريب كنت أندهش من سلوك سائقى الميكروباص، وأتجادل معهم قطعاً للوقت ربما مُذكراً إياهم بأنهم ليسوا فى بيوتهم ليتصرفوا على هواهم، وبالتالى ليس من حقهم أن يلوثوا الفضاء الضيق الذى ننحبس فيه لبعض الوقت بالكلمات المقززة والأصوات المنكرة، والألحان التى لا تعرف من الآلات الموسيقية إلا الطبلة والدرامز اللذين يجعلان جسم السيارة المعدنى يهتز، فما بال طبلات الأذن! وإن كنا نعترف بدءًا بحقهم فى الاستماع إلى ما يريدون، لأن الناس أذواق فى النهاية، فما أقل من ألا يرفعوا صوت المسجل ليفرضوا أذواقهم على الناس.. كثيراً ما كنت أقول للسائق من هؤلاء إنه طاغية صغير، الفرق بينه وبين عتاة الطغاة فى العالم: موسولينى وهتلر وستالين.. الخ هو الفرصة، هؤلاء يتحكمون فى شعوب لأنهم يملكونها، وأولئك يتحكمون فينا لأنهم يملكوننا! على أننى أعترف أن سائقى الأرياف أكثر ذوقاً من سائقى الحضر، لأنهم ميالون لأغانى الستينيات وبداية السبعينيات، ولا يعيبهم إلا الإصرار على بث شرائط الصييتة الذين يحيون الموالد ودوائر الذكر، صانعين توليفة غنائية غريبة من الحكى والموسيقى وحتى التمثيل! أنا الآن أعترف أن هذا الإزعاج يمكن إضافته إلى (الزمن الجميل)، إذ لا يصمد طويلاً إذا ما قورن بما يحدث الآن فى الميكروباصات! فما إن استرحت على مقعدك وبدأت السيارة فى التحرك، ومنيت نفسك ببعض الراحة والتأمل، حتى تقتحمك الأصوات المنكرة من كل مكان: عن يمينك وعن يسارك ومن خلفك ومن أمامك، شباب يحملون تليفونات نقالة ويبثون منها أغانيهم المفضلة، التى هى هابطة بالضرورة، ويرفعون أصواتها بشكل مبالغ فيه، ربما لأنهم يرون أنها جميلة ويريدون أن يشركونا معهم فى التمتع بها.. بالضبط كالطغاة الذين يجدون أن أفكارهم مبهرة وأن الناس لابد أن تقتنع بها، وبالتالى يقمعون الرافضين بقلب جامد، إذ إن المقموع هو المخطئ لأنه غافل عن المتعة! وإذا حاولت أن تلفت انتباههم إلى أن الذين ابتكروا لنا هذه الأجهزة اخترعوا معها سماعات للأذن تكف الأذى عن الناس، نظروا إليك ببلاهة كأنك تقول منكراً.. المهم أنك ستجد نفسك محاصراً ب(الجمال المقزز) الذى يبثه (الطغاة الصغار) من كل جانب، كأنك سقطت فجأة فى بئر سحيقة لا فكاك منها. وإذا حاولت أن تتألم، وأن تطلب منهم أن يكتفوا بواحد فقط فوجئت بأحد اثنين: إما أن يتجاهلوك ببلادة كأنك لست موجوداً، أو أن يصرخ أحدهم فى وجهك ويبدأ التحرك من مكانه شارعاً فى الاعتداء عليك جسدياً، كما فى معتقلات الطغاة الكبار.