ولأن التجارة شطارة.. أو هكذا أصبحت لغة الشارع المصرى منذ عصر قدوم القوافل، وكذا أديرت أمور دولتنا الموقرة مصر العربية وليست الفرعونية، حين حلت التجارة محل الزراعة التى كانت كل شئ وأساس أى شئ، وعندها أصبحت حياتنا اليومية شاملة الأخلاق والضمير تقريبا عبارة عن بيع وشراء.. بما فى ذلك الضمائر والعقول والأجساد، فالإنسان أصبح أهم السلع العصرية على الإطلاق، ولكنه يخضع بالطبع كما باقى السلع لمعايير السوق، كثير مما يفعله الإنسان يصنف سلعا تخضع للعرض والطلب، و"اللى مامعهوش مايلزموش".. جرب مرة أن تذهب لأى مصلحة أو هيئة رسمية، حكومية كانت أو غير حكومية، ستجد أن القائمين على المكان (مع مراعاة التسلسل الطبقى) قد حولوه إلى شبه مستعمرة، تخضع لقوانين شديدة الخصوصية وتتباين باختلاف المكان، لا تندهش للنزعة الطبقية فى التعامل، فهى أحد المركبات الأساسية للشخصية المصرية وقد تشكلت بفعل رواسب مغرقة فى القدم، وتراكمات من التعقيدات النفسية، تلك التى حرصنا دائما على اكتسابها والتعايش معها، وليس علاجها على مر العصور.. بمجرد دخولك من باب المصلحة سيتم تصنيفك بسرعة مذهلة ودون أن تشعر، ماديا ومعنويا واجتماعيا وأدبيا وستخضع لا إراديا لعملية مسح ذرى كتلك التى تستخدم طبيا فى الكشف عن الأورام، وعليه تبدأ فورا مرحلة التجهيز التى دائما ما تسبق عملية الإجهاز ! فيبدأ العاملون بالمكان من أصحاب مبدأ "فتح عينك تأكل ملبن" بتوجيه سعادتك للطريق الأسهل للحصول على المراد بإبعادك عن الانتظام فى الصفوف أو انتظار الدور، فقط تحصل على هذا التمايز إذا كنت من المؤمنين بنفس المبدأ، وفورا ستتم عملية حمايتك من تلصص أعين المتربصين ممن رسبوا فى اختبار كشف الهيئة الذى خضع له الجميع لا شعوريا عند الدخول، وما هى إلا دقائق وتصبح سيادتك أسيرا لمطلبك ولمطالبهم، السمين منها والغث حتى يحصلوا منك على ما يريدون مقابل تقديم شىء هو فى الأساس حق طبيعى لسيادتك بصفتك مواطنا عاديا..! هل توقفت لحظة بعد حصولك على الخدمة وانقضاء حاجتك دون استحقاق على حساب غيرك ممن تركتهم ينتظرون؟ هل نظرت خلفك لترى أن الصفوف مازالت ممتدة على امتداد بصرك بكل ما سببته من مآسى على وجوه هؤلاء الذين تعمدت تجاهلهم، بينما أنت تغادر المكان فى زهو المنتصر وكأنك حققت إنجاز غير مسبوق يضاف إلى سجلك الحافل بالمتناقضات..! أنت تزدرى كل من يخطئ فى حق غيره، وتنعته بأحقر الصفات، ولا تضيع فرصة فى التنصل من أى عمل مشابه، ولا تطيق ما قبلته منذ لحظات لصالحك أن يحدث معك أنت شخصيا، لماذا إذا هذا التضاد المريب بين قبول الشىء ورفضه؟ اليوم قد تعدى الأمر ذلك بمراحل، والناس لاتزال تصطنع الحيرة، أو ربما هى حالة استعباط متعمد، وبخبث يسألون عن السبب فى تردى الأحوال وتراجع مستوى المعيشة وتدنى مستوى الخدمات..!؟ أنتم السبب يا سادة يا كرام.. يا من ضيعتم حقوق الغير فضاعت حقوقكم، أسمعتم يوما عن مادة كونية شفافة غير مرئية ولا ملموسة تسمى "الضمير"؟ ومكوناتها عبارة عن أخلاقيات وسلوكيات وآداب ممزوجة بمادة الحياء النادرة بمعايير تحقق الرضا والقناعة بنسب متفاوتة..! ربما يكون السبب الرئيسى فيما آلت إليه أمورنا هو إنسحاب الضمير عمدا من الحياة اليومية، وظهوره فقط وعلى استحياء فى مناسبات نادرة، فى الغالب كاذبة ومصطنعة، كالظهور الإعلامى مثلا..!؟ الشعب المصرى من البسطاء معروف بميله الدائم للمرح، وشغفه بالاحتفال بسبب وبدون سبب، وهو أيضا مهووس بالظهور والوقوف أمام الكاميرا، لما يحققه ذلك لديه من متع الزهو والتفاخر، والدليل هذا العشق الخاص لدى المصريين للتصوير منذ القدم، ولهذا ربما تجده قد إمتثل خاضعا لصوت العندليب الأسمر وهو ينادى جموع الشعب بأغنية "كلنا كده عايزين صورة" فى ستينيات القرن الماضى.. الآن مع ثورة التكنولوجيا، والسرعة المذهلة فى نقل وتبادل المعلومات، والتحديث اليومى لكافة التطبيقات، أرى البشر وقد تحول معظمهم إلى ماكينات بث وتلقى فى حالة نهم دائم، وتجد هؤلاء وقد سقطت من حساباتهم مع الأسف معظم قيم الاحترام تجاه الغير، وتجاه أنماط الآداب العامة، وإنتهى المطاف بمعظمهم أخيرا إلى مستنقع الابتذال والاستهلاك الشره وبصورة غير مسبوقة..أصبح الاستسلام لمغريات الحداثة والتنازل عن القيم ومستوى الجودة هو سيد الموقف، وفى المقابل لا شىء إلا البريق الزائف أو الثمن الأرخص، أو المتع اللحظية التى سرعان ما تخبو..! هذا الأمر حتما قد طغى على الروح الإبداعية لدى الغالبية العظمى من البسطاء، وأصابهم بالكسل والعجز عن التفكير، وتراجع الذوق العام لكثرة المعروض من الغث والمغريات الرخيصة وكأنه الإدمان بعينه.. وقبل أن نستفيق، نجد ضوارى الإعلام والإعلان تقفز فى وجوهنا يوميا عبر وسائط التكنولوجيا، وتنقض على ضحايا الإغراء من أبرياء وبسطاء يلتمسون شهوة الشهرة بظهور صورهم أو أسماءهم فى أى شكل رسمى حتى لو كان نعيا فى صفحة الوفيات، فنجد عدسات الكيانات الإعلامية تتحرك بدأب، وتجوب الشوارع والحوارى والأزقة، والمناطق عالية الكثافة السكانية، الراقية منها والعشوائية، بحثا عن أراء البسطاء من الشعب فى كافة الأمور، مستغلين روح "الفقر والعنطزة" أمام الإغراء المادى والبريق الزائف، طبقا لما يتخلل تلك الجولات من حملات إعلانية شرسة، مستمرة ومستفزة تهدف لبيع كل شئ وأى شىء ولا شىء.! حتى تستسلم الفريسة المنهكة التى هى المستهلك، وتخور قواها، وتدفع صاغرة عن يد ما قد لا تملك مقابل ما قد لا تحتاج..! ليس على المحروم حرج، ولكنه هذا السيل من المطاردات اليومية التى تستغل سذاجة البعض وأحيانا حاجتهم الشديدة، وربما قلة خبرتهم، أو انفعالهم اللحظى، واستسلامهم لمغريات الكاميرا أو الشاشة.. للأسف تزاوج الإعلام والإعلان عرفيا أحدث شرخا عميقا فى تركيبة المجتمع، تلك التى كانت يوما ما لم تراه الأجيال الحالية أفضل حالا، وحولها لصورة ممسوخة، لا تكاد تصلح إلا للإتجار بالعقول، وربما تجاوزت كل حدود الآداب العامة والخصوصية والاحترام اللازم لعقول وقدرات البسطاء، إلى حد الاستهزاء بقدراتهم المحدودة والاستغلال الفج لبعض الأحوال المجتمعية والإنسانية المتردية..! وكأن الهدف هو إظهار الصورة القبيحة والشرهة لحالات الاحتياج المتباينة داخل المجتمع، والتى لا تكاد تخلو من التطاول المتعمد، تماما كما حدث من بعض الكيانات الإعلامية الفوضائية المغرضة التى أبت إلا وأن تتعمد تشويه صورة مصر منذ بدايات ثورة يناير 2011 المجيدة. وعليه، أصبحت المزايدة هى القاسم المشترك فى المعاملات اليومية، خصوصا على المستوى الاجتماعى والسياسى، وعلى مدار اليوم لا يتوقف البث الرتيب، فى التلفاز والراديو والجرائد اليومية والمواقع الإلكترونية.. ثورة التكنولوجيا المرعبة طغت على هاجس القوت اليومى فى جداول أولويات الجيل الحالى من الشباب، فأصبح الحصول على النسخ الأحدث من إصدارات الثورة الإلكترونية هو الشاغل الأول للجميع باستثناء المعدمين الذين ربما رفضوا هذا النموذج المتسارع من المتغيرات، لا لشىء إلا لعدم القدرة النفسية والمادية، ولهذا ربما اكتفوا بالدهشة..!