يسمونه فى الطب النفسى اضطراب الشخصية الانفصالية، وفيه يلجأ المريض إلى الانفصال عن الواقع طواعية، ويكون أشبه بالعملية الدفاعية التى يستخدمها لتجاوز مشاعر عاطفية سلبية واكتئاب جراء غياب التنظيم الوجدانى، فيفقد سيطرته، ويتصرف بغضب بين الحين والآخر، ويلجأ فى الحالات الحادة إلى استخدام دفاع الشخصية الانفصالية التى لا تعترف بالواقع «خارج مربعه ومكان اعتصامه». ويطلقون عليه فى العلوم السياسية «أوثوريتاريان» أو نظاماً استبدادياً يعطى نفسه الحق فى سلب شعبه حق المعرفة، والتفكير والوصول إلى الخبر والتمكن من المعلومة واتخاذ القرار، فتنصب نفسها على قمة الحكم أو «أعلى المنصة»، وتعطى لنفسها سلطة مطلقة، وتدير الأمور فى شكل عشوائى لا يخضع لقانون، وتتحكم فى الشأن الاجتماعى بغرض التحكم فى الجماهير وتغييب عقولهم. وهوفى عرف الإعلام «بروباغاندا شمولية» لا ترى الجزيئات ولا تعترف بالتنويعات ولا تلقى بالاً للأفراد، لكنها تعمد إلى تغييب العقل عبر التسويق الأيديولوجى لأفكارها بهدف السيطرة على العقول بتغييبها، وخلق عوالم موازية لتلك الموجودة على أرض الواقع، عبر الأخبار المغلوطة والتقارير المنحازة والتحليلات المؤدلجة بحسب «منهج الجماعة». وبحسب جورج أوريل، فإن الحادث يلخص الطريقة المثلى التى شرحها فى روايته «1984» لكيفية ممارسة السلطة الحديد والقبضة الدامية على الجموع بعد تغييبها وكسرها، "تجعلها (الجموع) تقاسى الألم، فالطاعة وحدها ليست كافية، وما لم يعانِ الإنسان الألم، لن تتحقق من أنه سينصاع لإرادتك وإلغاء إرادته هو، التحكم فيه لا بد من أن يمر بإذلاله وإنزال الألم به، وتمزيق عقله البشرى إلى أشلاء ثم جمعها وصياغتها فى قوالب جديدة من اختيار المرشد". يحدث هذا فى «رابعة العدوية» التى باتت صداعاً فى رءوس المصريين، مربع «رابعة» صار معزولاً عن الحياة منفصلاً عن الواقع الذى يبعد بضعة أمتار من متاريسه الرملية وحواجزه الحديد وخوذاته الرياضية وعصيه الخشبية. إنه واقع «رابعة» الخاص به، والمذكور فى نظريات الطب النفسى وعلم السياسة وقواعد الإعلام وكتابات أورويل. المصادر الخبرية والمعلوماتية لواقع «رابعة» لا تخرج عن إطار القنوات الصديقة بدءاً ب «الجزيرة» مروراً ب «اليرموك» وانتهاء ب «القدس»، وهى المصادر التى تصنف «رابعة» باعتبارها الإرادة الشعبية الوحيدة وكل ما عداها انقلاب، وتنعت معتصميها بأصحاب الحق وكل من خالفوهم بأهل الباطل، وتصف ميدانهم بميدان الأطهار الأبرار المتوضئين وكل ما هو دونه بميادين العلمانيين الكفار المنقلبين المتواطئين الراقصين. بل إنها تنعت هواء الاعتصام بالعنبر والمسك والعبق، فيما ينوء الهواء خارجه بأثقال القبح والفسق والفجور والنجاسة. ولأولئك المتصلين بالشبكة العنكبوتية منهم، فهم لا يدورون إلا فى فلك اللجان الإلكترونية التى تصنع واقعاً عنكبوتياً لا يخرج عن إطار «أبطال رابعة» و«حرائرها» و«شهدائها الأبرار» والنصر المتحقق بإذن الله. وإذا خارت قوى المعتصمين هنا أو فترت حماستهم هناك، هب مشايخ المنصة وحكماؤها إلى شد أزرهم بتذكيرهم بالجهاد فى سبيل الله، الذى خرجوا من أجله، وحور العين اللاتى يَتُقن لهم، وتلال الثواب وأطنان الغفران التى تنتظرهم فى حال استشهادهم دفاعاً عن غاية منى الشريعة ومنتهى أمل الشرعية. ورغم أن غاية منى ومنتهى أمل سكان «رابعة» هو انتهاء الاعتصام المزمن وفض مظاهر الإقامة الكاملة التى أنهكتهم ورحيل المعتصمين الذين استوطنوا مربعهم قالبين حياتهم رأساً على عقب، إلا أن مسئولى الاعتصام والقائمين على أمر شد أزر المعتصمين بعصا التهديد بمغبة معصية الله والوعيد بالطرد من جنة الجماعة العلاجية والغذائية والتكافلية والأسرية والتعليمية، وجزرة الثواب ونصرة الإسلام ودعم الشرعية وتعضيد الشريعة. شريعة أهل «رابعة» جعلت من حياتهم الاعتصامية منظومة منفصلة عن الواقع، فهى تعيش واقعاً افتراضياً صنعه إعلام داعم لا يرى فى مصر سوى «رابعة» ولا يعترف إلا بجماعة ولا يقر إلا بأجندة شرق أوسط كبير لا مجال لسيادة الدول فيه. وينعش هذا الواقع ترويج المنصة لأكذوبة أن الشعب المصرى متضامن قلباً وقالباً مع مستوطنى «رابعة»، وهو التضامن الذى يعطله ربما رمضان بمسلسلاته، ويعرقله أحياناً الفلول وتهديداتهم، وتكبله دائماً جموع القلة المندسة وأجندات الصهيو-ليبرالية وبروتوكولات بنى علمان. وتصدح تكبيرات قادة الاعتصام ومسئولى المجموعات فى فقاعة «رابعة» المنفصلة عما حولها، فتؤجج المشاعر وتشعل الحماسة وتستمر جهود تضخيم الذات «الإخوانية» والذوات المتحالفة، وهو تضخم يسرى فى الأتباع والأفراد والمحبين والمعتصمين سرياناً لذيذاً يتمكن من حواسهم وانفعالاتهم وتحركاتهم. وتتحول «رابعة» من مجرد اعتصام إلى علاقة سببية وطيدة الأواصر بين شعب الاعتصام وأمراء المنصة الذين يعتمدون على المعتصمين الذين تحولوا إلى مستوطنين لتحقيق المآرب وتفعيل المصالح. سيطرة فكرة الاستيطان على جموع المصريين تثبت مؤشر انفصال سكان «رابعة» الجدد الذين استوطنوها عن الواقع. ويدق المصريون هذه الأيام على أوتار مسميات تلخص نظرتهم تجاه ما يجرى فى «رابعة»، فمن محطة محورية فى عالم عفاريت الأسفلت وميكروباص النقل العام، ومسجد مركزى لا يخلو من جنازات نهارية وأفراح مسائية وعزاءات ليلية، إلى مستوطنة أو مستعمرة كما يطلق عليها العامة، أو «إمارة» أو «رابعة ستان» كما يسميها المؤدلجون، أو«غيتو» كما يراها المحللون. وتكفى تلك النظرات التى يرمق بها المارة والباعة المعتصمين العابرين فى «طريق النصر» المؤدى إلى «رابعة». هى خليط من حب الاستطلاع الذى يتمكن من المصرى لدى رؤية الغرباء، والتعاطف الذى يتملكه لدى متابعة الخاسرين، والاستغراب الذى يعتريه حين يحاول أحدهم أن يثبت أن الأرض لا تدور حول نفسها لأنه لا يشعر بدورانها، وهى النظرات التى لا تخلو من نظرة عتاب على غرار «ماكانش العشم» حين يجد أن «الناس بتوع ربنا» هم أنفسهم «الناس بتوع رابعة» الذين يدفعون بالجميع نحو الهاوية.