دخل حسونة الملواني غرزة المعلم أبو شوال يتأبط ذراع شاب يرتدي قميصا وبنطالا ويضع نظارة طبية على أرنبة أنفه وبوجه حليق، وبمجرد أن دلفا من باب الغرزة حتى كاد الفضول يقتل روادها الذين يعتبرون تلك الغرزة الأثيرة البعيدة عن عيون أهل الكفر وشيجة تجمعهم، وقد تعلو في قدرها على وشائج الرحم والقربى، فكيف يتسنى لهذا الحسونة الأرعن أن يأتي بمثل هذا الشاب الغريب المريب الذي قد يكون مخبرا للمباحث يذهب بهم جميعا في أبي نكلة، وبعد السلامات والطيبات التي أتت معظمها من تحت الضرس - بطبيعة الحال- دار الحوار التالي: عبده المفش: إلا ما قلتلناش يا ريس حسونة..مين الشاب الحليوة اللي مشرفنا معاك الليلة دي ؟! حسونة وقد سعل سعلة قوية إثر احتباسه بعضا من الأنفاس المعطرة التي أطلقها على مهل وتركها تتهادى أمام عينيه: معلش يا جماعة.. نسيت أعرفكم.. ده الدكتور رشاد ابن عم أبويا الريس عويس الملواني.. وانتو ماخدتوش بالكم منه عشان أهله سابوا البلد من زمان.. والدكتور اتولد واتربى في مصر وأول مرة يشرف بلدنا.. عوضين كلاف البهايم: مرحب بالعلم والثقافة، والنبي يا دكتور أنا صدري مغلوش والكحة تاعباني بقالها سنين ودخت في علاجها عند دكاترة البر كله ولا فيش فايدة، اكتب لي حاجة يمكن ربنا يجعل على إيديك الشفا، ينوبك ثواب يا شيخ.. الدكتور رشاد متأسفا: لا يا أخ.. أنا آسف جدا.. أنا دكتور في الفلسفة مش في الطب.. المعلم أبو شوال: أيوه افتكرت..إمممممم.. رشاد ابن عويس، أيوه.. متأخذنيش يا افندي.. دا إحنا سمعنا إنك والعياذ بالله واخد الدكتوراة في الفلفسة وبقيت شيوعي.. لا ليك ملة ولا دين..لا حول ولا قوة إلا بالله.. ليه كده بس ياحبيبي.. ربنا يهديك. الدكتور رشاد يضحك حتى يستلقي على قفاه من كثرة الضحك بين رواد الغرزة المبهوتين.. ميمون القرداتي متعجبا: عليّا النعمة الدكتور ده دماغه خفيفة خف الريشة يا جدعان.. ده ماشدش ولا نفس ووصل لسابع سما.. سبحان الله ! الدكتور رشاد: وحد الله في قلبك يا معلم.. هو مين ده اللي دماغه خفيفة.. ناولني كده الجوزة دي يا جدع بالصلاة ع النبي.. المعلم أبو شوال محدثا نفسه بصوت عال: وحد الله في قلبك.. وبالصلاة ع النبي.. ما انت راجل مؤمن زي حالتنا وعارف ربنا أهو..أمال بيكدبوا عليك ليه يا دكتور ويقولوا اللي قالوه ده.. ربنا يجازيهم. الدكتور رشاد مؤكدا: شفت بقى يا معلم.. عالم ما بتخافش من ربنا.. وناسيين إن الدنيا ماهياش دايمة.. وقيامة على العالم قايمة.. ثم يشعر الدكتور رشاد بانطفاء الحجر الذي بين يديه فيتوجه إلى راكية النار ويتناول جمرتين بيديه العاريتين ويضعهما على الحجر في مشهد أذهل كل من في الغرزة. عبده المفش وقد قفز من مكانه: بإيديك كده من غير ماشة يا دكتور.. إيه ده؟! الدكتور رشاد: صلي ع النبي يا جدع انت.. النار ما تحرقش مؤمن.. الله ! عوضين كلاف البهايم: طيب وإن حرقته يا دكترة ؟! الدكتور رشاد بنظرة مستهجنة: خلاص يبقى المؤمن منصاب! أبو شوال: ما تبس يا جدع انت وهوه.. خلونا نعرف نستفيد من قعدة الدكتور وسطينا ونستنور بشوية فلفسة من اللي عنده.. يمكن نقدر نفهم ساعتها البلد دي بعد كل البلاوي اللي حصلت لها من بعد الثورة رايحة على فين.. الدكتور رشاد وقد شعشع الحجر الخامس في نافوخه: والله سؤال عميق وفي محله يا معلم.. شوف هو كانط بيقول.. عبده المفش وقد تلاحقت أنفاسه وضحكاته: طنط مين وأبلة مين يا دكتور... انت اتسطلت ولا إيه.. إحنا عايزين رأي العلم والفلفسة بتاعتك مش طنط.. ثم إيه اللي دخل الحريم في القعدة العالية بتاعتنا دي ؟! الدكتور رشاد وقد أغضبته سخرية المفش: كانط مش طنط يا جاهل.. كانط دا فيلسوف ألماني دماغه متكلفة كده زي حالتنا.. بس هو مات من زمان.. إنما فلسفته ما زالت نبراسا يستنار به على مر العصور.. فاهميين يا بقر ؟! أبو شوال معتذرا: فاهمين يا دكتور.. ما تأخذناش.. انت راجل متنور واحنا عالم على قد حالنا..أومال.. وفوق كل ذي علم عليم.. المهم المعلم كانط ده بيقول إيه في الظروف المقندلة اللي احنا فيها دي ؟! الدكتور رشاد مكملا حديثه وقد لعبت كثرة الأحجار برأسه فخال نفسه في المدرج بالجامعة يحاضر لطلبة الماجستير والدكتوراة: يذهب الفيلسوف كانط إلى أنه لابد من التنوير وهو يعني به خروج الإنسان من قصوره الذي يرجع فيه الذنب إليه، ذلك القصور الذي يترجم في عدم إمكانية استخدام العقل إلا بتوجيه من إنسان آخر مثل الإعلاميين أو رجال الدين أو السياسيين وغيرهم، لذا لابد أن تكون لديك الشجاعة لتستخدم عقلك، هذا هو شعار التنوير، والكسل والجبن هما العاملان القاتلان اللذان يرجع إليهما عدم إمكانية استخدام الإنسان لعقله لأنه ما دام هناك المفكر الذي يفكر عني والطبيب الذي يعالجني والمهندس الذي يبني لي فلماذا أستخدم عقلي طالما كنت قادرا على دفع الثمن ؟! وتلك هي المصيبة، وهنا يثور سؤال: هل يتمكن جمهور ما من تنوير نفسه ؟ والإجابة بنعم، إذا ما أوتي هذا الجمهور الحرية، تلك السلعة الغالية التي يجتهد الطغاة لحرمانهم منها، حتى إذا ما امتلك مثل هذا الجمهور الحرية لا بد من مفكرين موثوقين يساعدونه في مرحلة التنوير، لأن بعضا من النخبة التي جعلت من نفسها وصية على المجتمع إذا ما حاولت غرس أفكارها الجامدة فإن تلك الأفكار الجامدة تثأر من صانعيها، بل قد تستأصل شأفتهم عندما يكتشف الجمهور زيفهم وزيفها، وهو ما حدث ويحدث مع التيار المتأسلم في هذه الأيام وعلى رأسه جماعة الإخوان المسلمين، ولهذا لا يمكن للجمهور أن يصل إلى التنوير إلا ببطء، لأن ثورته ربما قضت على استبداد شخصي أو مذهبي، لكنها لا تؤدي أبدا إلى إصلاح حقيقي لأسلوب التفكير ،لأنها تضع أفكارا جامدة جديدة لتكون كالقديمة حبلا يجر معظم الجمهور الذي لا يفكر، ومثال ذلك ما يحاول أن يجرنا إليه الجمهور القديم الذي اكتوى بالأفكار القديمة، فيخال الأفكار التي يوجهونها إلى تبنيه "طوق النجاة" من بحور الظلمات الحالكة، ولكنها للأسف ستكون ذلك الحبل الذي يشنق نفسه به.. فها أنتم ترون أنه في طريقه إلى استبدال تسلط قديم بآخر جديد وديكتاتورية قديمة فجة بأخرى حديثة لها مظهر مغرٍ تتخذ من الاستقرار عنوانا لها، لذا لا بد من التنوير القائم على حرية الاستخدام العلني للعقل وطرح الأفكار والرؤى الحقيقية دون خوف، فتطرح الرؤى على شكل أفكار وتطبيقات وتوجهات علمية لا ضير في مناقشتها أو تبنيها علنا، وهو ما نرى سعيا حثيثا إلى تقويضه في هذه المرحلة تغييرا وتجميعا لمجتمع مكلوم في طريق واحد، وإقناعه أنه السبيل الوحيد للخلاص، لذا لا بد من التمسك بأهداب الحرية التي يدعّونها دعا بعيدا عن محتاجيها، ولا بد من استغلال تلك الحرية لإعمال العقل والخطو حثيثا نحو الخلاص بالتنوير.. إيه رأيكم بقى؟! يصفق الحضور للدكتور تصفيقا حادا ويهجمون عليه ويقبلونه هاتفين: عاش الدكتور رشاد عويس ابن بلدنا المتنور.. عاش.. يشعر الدكتور بأنه وإن كان بين مجتمع من المساطيل إلا أنه يرى بعد هتافاتهم ومشاعرهم النبيلة تلك أنه قد أدى رسالته التنويرية ودوره المنوط به، ولكنه ما زال يريد أن يتأكد من فهمهم واستيعابهم لكل ما قاله.. يبادر بسؤال عوضين: ما قلتليش بقى إيه رأيك يا عم عوضين في مسألة التنوير اللي أنا قاعد أشرحها لكم من الصبح دي ؟! عوضين كلاف البهايم وقد وضع ساقا على ساق كناية عن الفهم العميق قائلا: والله معاك حق يا دكتور في كل كلمة قلتها..أنا طول عمري أقول للمعلم أبو شوال إن موضوع التنوير ده مهم جدا.. وإنه لازم يزود لنا لمضتين فلورسنت في الجنب الشمال اللي هناك ده عشان إضاءة الغرزة مش ولابد.. ويطنشني.. وبعدين دي نار وممكن تودينا كلنا في داهية يااخوانا.. روح الله يفتح عليك يا شيخ ويخليك لينا.. يا دكتور يا بتاع الفلفسة يا متنور...