منذ سقوط نظام البعث السوري في ديسمبر الماضي، وجدت كل من تركيا وإسرائيل في هذا الحدث نقطةَ انعطافٍ جذرية لإعادة تشكيل الخارطة الجيوسياسية السورية. إذ انكفأت إيران على وقع انسحابات تكتيكية لقواتها، وبرز فراغٌ هائلٌ في مراكز القرار والتموضع العسكري، ليُفتح الباب واسعًا أمام صراع نفوذ مزدوج بين أنقرة وتل أبيب، يتجاوز حدود الأمن إلى مشاريع استراتيجية طويلة المدى. هذا التحول، وإن بدا في لحظاته الأولى وكأنه مجرد ملء فراغ، إلا أنه في جوهره يعكس ديناميةً إقليميةً تتشكل على أنقاض ما تبقى من الدولة السورية. تركيا وسيناريو "الحديقة الخلفية" لم تنتظر أنقرة طويلًا حتى تترجم سقوط النظام إلى مشروع توسع فعلي. فخلال السنوات الأخيرة، بَنَت تركيا علاقةً شبه عضوية مع "هيئة تحرير الشام"، وصولًا إلى دعم غيرٍ مباشر لصعود أحمد الشرع، المعروف سابقًا ب "الجولاني"، كواجهةٍ بديلةٍ لحكم دمشق. ومنذ لحظة سقوط النظام، تعاملت أنقرة مع شمال سوريا كمجال نفوذٍ مفتوح، يحاكي تصوراتها التاريخية حول "الحديقة الخلفية" التي تمثل عمقًا جيوسياسيًا وأمنيًا لا غنى عنه. وعبر اتفاق سوتشي 2019، وضعت تركيا إطارًا قانونيًا لتدخلها في الأراضي السورية من خلال مفهوم "المنطقة العازلة"، مستندة إلى رواية تأمين الحدود ومنع تشكّل كيان كردي مستقل حتى ولو كان ضمن سيادة دولة سورية لامركزية موحدة. هذا الهوس التركي ب"الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا" يُفسَّر ضمن سياق الصراع التركي الكردي الداخلي، لكنه في الحالة السورية تحوَّل إلى مبررٍ دائم لبناء قواعد وانتشار عسكري يمتد من إدلب إلى الحسكة.
إسرائيل: من مراقبة إلى تموضع استراتيجي على الضفة الأخرى، تحركت إسرائيل بسرعةٍ متوازيةٍ، مُعتبِرة سقوط النظام السوري فرصة نادرة لإعادة رسم خطوط المواجهة والردع على جبهتها الشمالية. ففي ذات يوم سقوط النظام (8 ديسمبر)، أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو انهيار اتفاق فض الاشتباك لعام 1974، ما منح تل أبيب غطاءً سياسيًا للتمدد في المنطقة العازلة بين سوريا والجولان. وبينما رفعت إسرائيل شعار "تحييد التهديدات الإيرانية"، فإن عملياتها العسكرية تجاوزت هذا الهدف التكتيكي لتؤسس لحضور دائم يشمل القنيطرة، جبل الشيخ، وامتد حتى ريف دمشق. وقد أسفرت عمليات القصف الجوي والبري عن تدمير نحو 80% من البنية التسليحية السورية الثقيلة، وهو ما يشير إلى رغبة إسرائيلية بتفكيك القوة العسكرية السورية بالكامل، أو على الأقل ضمان بقائها دون مستوى التهديد. خرائط الانتشار: الجغرافيا كساحة اشتباك تُظهر خارطة الانتشار العسكري التركي وجودًا كثيفًا يمتد عبر 126 موقعًا عسكريًا شمالي سوريا، بين قواعد رئيسية ونقاط ارتكاز. فيما يتحرك الجيش التركي بثقل تقوده 7 ألوية قتالية وأكثر من 10 آلاف جندي ومئات الآليات والمقاتلات، مع خطط للتوسع في مواقع استراتيجية مثل قاعدة "تي فور" في حِمْص، ما يؤشر إلى بوصلةٍ تركيةٍ جديدة نحو وسط سوريا. في المقابل، نشرت إسرائيل 9 مواقع عسكرية جديدة، تشمل مناطق استراتيجية تربط الجولان بدمشق، مرورًا بالقنيطرة وسد الوحدة الحيوي. الأهداف المعلنة ترتبط بمنع تهريب الأسلحة إلى حزب الله، والسيطرة على المياه، وتأمين تفوق جوي واستخباراتي مطلق. اشتباك غير مباشر: من الاحتواء إلى المواجهة الوقائية مع تعاظم الدور التركي وتوقيعه اتفاقًا دفاعيًا مبدئيًا مع ما تبقى من الحكومة المركزية في دمشق، دخلت إسرائيل على خط المواجهة الاستباقية، وشنّت في 4 أبريل هجمات جوية وصاروخية شملت قاعدة "تي فور"، مطار حماة، وقاعدة تدمر، في رسائل واضحة بأن أي تموضع تركي عميق يُعد تهديدًا إسرائيليًا مباشرًا. في هذا السياق، لا يبدو المشهد خاضعًا فقط لحسابات الجغرافيا أو التكتيك، بل لصراع استراتيجي حول مستقبل سوريا ما بعد البعث: من يضع قواعد اللعبة؟ ومن يحدد خطوط العودة؟ التحوّل من النزاع إلى "إدارة الاشتباك" رغم هذا التصعيد، لا تميل تل أبيب أو أنقرة إلى الانزلاق في حرب مباشرة، لأسباب تتعلق بتداخل مصالحهما الاقتصادية وتنسيقهما العسكري المسبق، خصوصًا في ملفات الطاقة والتكنولوجيا. ولهذا اتجه الطرفان إلى ما يعرف ب "آلية منع التصادم"، وهي صيغة أشبه بإدارة اشتباك دائم دون مواجهة مفتوحة، وقد تم تدشينها برعاية أمريكية في باكو، لتحديد مناطق النفوذ والممنوعات العسكرية، خاصة في ظل حساسية الحدود السورية-الإسرائيلية. سوريا المُمزقة: السيادة كأداة تفاوض المشهد العام يكشف أن سوريا أصبحت، بفعل التحولات الأخيرة، مجالًا لتوازنات قوى إقليمية يتم هندستها فوق أطلال السيادة الرسمية. فأنقرة لا تتعامل مع دمشق كعاصمة لدولة شريكة، بل كمجالٍ جغرافيٍ مفتوح لإعادة ضبط التوازنات الكردية والطاقة والأمن. في حين ترى تل أبيب أن لحظة انهيار النظام مثّلت الفرصة الأخيرة لتغيير قواعد الردع وتحويل الجولان إلى عمق دفاعي وليس مجرد منطقة حدودية. وبين هذا وذاك، تغيب دمشق الرسمية عن معادلة الفعل، وتُستحضر فقط عند الحاجة، سواء كغطاء سياسي لأنقرة، أو كأداة دعائية لتل أبيب في إطار "حماية الأقليات" كما حدث في غارة القصر الرئاسي. أفق مفتوح أم مرحلة مؤقتة؟ تشير كل المؤشرات إلى أن الحضور العسكري لكل من تركيا وإسرائيل في سوريا ليس مؤقتًا. فقد صرَّح وزير الدفاع الإسرائيلي أن قواته ستبقى في مواقعها "لأجل غير مسمى"، في حين تنسج تركيا تحالفات ميدانية طويلة الأمد تشمل خطوط أنابيب وممرات لوجستية ومناطق تجارية. هذا الترسّخ العسكري-الاقتصادي يجعل من سوريا مسرحًا طويل الأمد لصراع مصالح إقليمية قد لا يهدأ حتى تُعاد صياغة النظام الإقليمي برمّته. سيناريوهات المستقبل في ضوء ما سبق، واستشرافا للمستقبل يمكن الوقوف على أربعة سيناريوهات على النحو التالي: السيناريو الأول: تثبيت مناطق النفوذ وتقاسم فعلي لسوريا ربما تنجح كلّ من تركيا وإسرائيل، وبدعم أميركي ضمني وصمت روسي، في ترسيخ نفوذها على الأرض. وتُعتمد آلية "منع التصادم" كصيغةٍ دائمة لضبط التوترات، مما يؤدي إلى تقسيم الأمر الواقع لسوريا إلى مناطق نفوذ واضحة حيث تكون: شمال وشمال شرق سوريا تحت إشراف تركي مباشر أو عبر وكلاء محليين. جنوبسوريا حتى تخوم دمشق في قبضة إسرائيل العسكرية والاستخباراتية. وسط وغرب سوريا يبقى كجيب شبه سيادي تتحكم فيه حكومة دمشق بحماية روسية محدودة. ويتعزز هذا السيناريو بعدد من المؤشرات مثل توسع القواعد العسكرية التركية والإسرائيلية، وتواصل القصف الإسرائيلي لمواقع إيران و"حزب الله"، وتنامي التعاون التركي الإسرائيلي غير المعلن بشأن "ضبط الجغرافيا السورية"، بالإضافة إلى ضعف قدرة الحكومة السورية على استعادة السيطرة أو الرد. غير أن هذا السيناريو قد يترتب عليها نهايةٌ فعلية لفكرة "الدولة السورية الموحدة"، فضلا عن تصاعد التوتر بين الفاعلين غير الدوليين (قسد، الفصائل المسلحة) داخل مناطق النفوذ، مع توتر علاقات دمشق بكل من تركيا وإسرائيل، واستمرار العجز الإيراني، وبشكل عام يمكن القول بأن هذا السيناريو هو المرجح في حدود "المدى المنظور". السيناريو الثاني: تصعيد عسكري ومواجهة تركية-إسرائيلية غير مباشرة قد تفشل المحادثات الفنية بين أنقرة وتل أبيب بما يؤدي لصدامات غير مباشرة من خلال ضربات جوية متبادلة أو عبر وكلاء ميدانيين، خصوصًا في المناطق المتداخلة مثل حمص وحماة والبادية السورية. ولعل ما يدعم ذلك مؤشرات مثل ازدياد الضربات الإسرائيلية لمواقع تتبع لتركيا أو حلفائها، ولجوء تركيا لنشر أنظمة دفاع جوي متطورة في عمق سوريا، بالإضافة لتصاعد خطاب المواجهة في الإعلام التركي والإسرائيلي. وفي حال تحقق هذا السيناريو، من غير المستبعد ظهور تداعيات مركبة مثل تعقيد الساحة السورية وتعدد جبهات النزاع، بما يسهم في استدعاء لاعبين إقليميين مثل إيران وروسيا للتهدئة أو التدخل، فضلا عن احتمالية انزلاق الوضع إلى اشتباك محدود أو أزمة إقليمية. السيناريو الثالث: إعادة بعث الدولة السورية بغطاء تركي-روسي مشترك كما قد تتفق أنقرةوموسكو على صيغة لتدوير النظام السوري الحالي أو خلق بديل موالٍ للطرفين، وتستبعد إيران من المعادلة، مما يُعيد تأسيس سلطة مركزية شكلية في دمشق، تُعطي غطاء قانونيًا للوجود التركي، وتتحاشى الصدام مع إسرائيل. وهو ما يتعزز بما تشهده الآونة الأخيرة من إطلاق عملية سياسية تقودها تركيا في شمال سوريا تشمل "حكومة وحدة وطنية"، وزيارة مسؤولين سوريين إلى أنقرة أو موسكو بتنسيق واضح، بالإضافة لانكفاء انكفاء مؤقت للوجود الإيراني مقابل ضمانات روسية. لكن هذا السيناريو لا يخلو من تداعيات من قبيل انقسام داخلي في معسكر النظام السوري نفسه، وتهميش الدور الإيراني وتوسيع الشراكة التركية الروسية، وأيضا ظهور قبول دولي مشروط بإعادة الإعمار مقابل "استقرار سياسي زائف"، إلا أن هذا السيناريو يبدو ضعيفا لكنه قابل للتبلور على المدى المتوسط. السيناريو الرابع: انسحاب جزئي أو مفاجئ لقوى كبرى وعودة الفوضى في حال تغير أولويات الفاعلين الخارجيين نتيجة لأزمات داخلية أو تغير في التحالفات العالمية منها – على سبيل المثال – تفاقم صراع تايوان أو أوكرانيا، ما يدفع تركيا أو إسرائيل لتقليص تدخلها، الأمر الذي يؤدي إلى فراغٍ جديدٍ تعجز الدولة السورية عن ملئه، مما يُعيد إنتاج مشهد الفوضى، وقد يجد هذا السيناريو دعما في حالة حدوث تغيير في القيادة السياسية في تركيا أو إسرائيل، أو تراجع التمويل أو الدعم الدولي للوجود العسكري، وبروز احتجاجات داخلية في المناطق الواقعة تحت السيطرة الأجنبية. وبطبيعة الحال، فإن هذا السيناريو قد يترتب عليه عودة الجماعات المتطرفة إلى واجهة المشهد، مع تصاعد موجات الهجرة واللجوء مجددًا، فضلا عن حدوث انفلات أمني قد يستدعي تدخلًا دوليًا جديدًا بصيغة مختلفة. غير أن الوضع الراهن ومعطياته يجعل من هذا السيناريو"الخطير" غير ممكنا في الوقت الراهن، لكنه غير مستبعدا على المدى البعيد. الخلاصة، فإن المسار السوري الحالي يمضي نحو نموذج "السيادة المجزأة" بفعل ترسخ الحضور التركي والإسرائيلي، فيما يبدو التنسيق بين الطرفين هو الخيار المرحلي الأقوى لتفادي التصادم المباشر، ولذلك فإن السيناريو الأول القائم على منطق "تثبيت النفوذ" والتقاسم الفعلي هو الأقرب للتحقق لاسيما مع السيطرة الميدانية لتركيا عبر قواعد ونقاط عسكرية وفصائل محلية، فضلا عن ترسيخ الوجود العسكري الإسرائيلي جنوبسوريا الأمر الذي يدفع الطرفين نحو إيجاد "آلية منع التصاد" عبر المحادثات الفنية الجارية. ومع ذلك، فإن هشاشة الأوضاع، وتعدد الفاعلين، وضعف الدولة المركزية، يجعل من كل سيناريو ممكنًا، ويضع مستقبل سوريا أمام مفترق طرق يتطلب مراقبة دائمة لتوازن القوى الإقليمية. ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار ال 24 ساعة ل أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري ل أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية. تابع موقع فيتو عبر قناة (يوتيوب) اضغط هنا تابع موقع فيتو عبر قناة (واتساب) اضغط هنا تابع موقع فيتو عبر تطبيق (نبض) اضغط هنا تابع موقع فيتو عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هنا