انضم وزير الخارجية الأمريكية جون كيري إلى الكثير من الدبلوماسيين الذين حذروا من أن الوضع الراهن في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني غير قابل للاستمرار.. فقد أصبح مبعوث اللجنة الرباعية توني بلير الآن جزءا ممن يقولون إن نافذة التوصل إلى حل للصراع توشك أن تغلق.. وهكذا، إن العديد من المراقبين الذين تزل ألسنتهم من دون سخرية واعية حين يقولون إن الوضع "لا يزال غير قابل للاستمرار". ويبدو أن كافة المسارات لمضي الفلسطينيين قدما، بدءا من التركيز على بناء المؤسسات مرورا بالجهود الدبلوماسية لإحياء عملية السلام وانتهاء بالمقاومة المسلحة، قد سدت بالكامل.. كما يبدو الواقع الراهن راسخا تماما. ازداد حجم الدعم الدولي لإقامة الدولة في ظل انحسار الحماسة المحلية للفكرة.. في تسعينيات القرن المنصرم، لم يكن القادة الإسرائيليون الذين دعموا فكرة إقامة دولة فلسطينية، يتجرأون على الحديث عن الأمر لأنه كان محفوفا بالمخاطر محليا، ولأنهم رأوا فيه ورقةَ مساومة يمكن أن تكلف ثمنا باهظا.. والآن حتى القيادة الإسرائيلية فقدت حساسيتها إزاء مصطلح "الدولة الفلسطينية".. في العام 2013 (حتى قبل ذلك ببضع سنوات)، جرى تكرار التأييد الدولي لحل الدولتين في كثير من الأحيان بحيث تحول إلى نوع من الابتذال في الخطاب الدبلوماسي.. أما الذين يهتمون قليلا بالفكرة في الممارسة العملية، فما زالوا يتفوهون بالمصطلح لتجنب استعداء الجهات الفاعلة الدولية القوية. عندما اعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة بفلسطين كدولة غير عضو في نوفمبر 2012، أسهمت الخطوة في توفير دعم محلي عابر لا أكثر للزعماء الفلسطينيين الذين عملوا بجد لتحقيق ذلك.. فذلك الاعتراف لم يؤد إلى حدوث أي تغيير ملموس على الأرض. والواقع أن حلم قيام الدولة بات ينحسر بالنسبة إلى الفلسطينيين، إذ أن قلة منهم ترى أن ثمة ميلا عمليا نحو هذا الاتجاه.. ولا يبدو أن السلطة الوطنية الفلسطينية مرتبطة بأي مشروع لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، حتى من وجهة نظر معظم الأفراد الموظفين في مكاتبها المختلفة.. ولم تَعد فكرة أن الدولة هي السبيل الأفضل لتحقيق الحقوق الفلسطينية تهيمن على المناقشات السياسية الفلسطينية.. فقد أصبح الحديث عن حل السلطة الوطنية أو انهيارها شائعا للغاية.. ولا يبدو أن أيا من المسارين أمر مرجح قريبا بالمعنى المؤسسي. لكن إذا كان ينظر إلى السلطة الوطنية الفلسطينية على أنها هيئة لها هدف واضح وسلطة على الحركة الوطنية الفلسطينية، لا على أنها مجموعة من الهياكل البيروقراطية، فهذه السلطة انهارت منذ زمن بعيد.. لقد انشطر أعظم إنجاز حققه الجيلان السابقان - إنشاء الحركة الوطنية التي تربط الضفة الغربية وقطاع غزة معا، إضافة إلى الشعور الراسخ بالهوية الوطنية ومجموعة من الهياكل المخولة بتمثيل الفلسطينيين خارجيا (إلى حد أقل بكثير) وتقسيمهم داخليا - إلى نصفين متحاربين. تشير حالة الانقسام المتزايد بين الضفة الغربية وبين قطاع غزة إلى أحد الأسباب الرئيسية الكامنة وراء عدم ظهور قوة ثالثة في الحياة السياسية الفلسطينية.. ففي ظل الأجواء الحالية، يحصن شطرا القيادة الفلسطينية المتحاربان نفسيهما بشدة، الأمر الذي يوفر مساحة سياسية لاتذكر للقيام بمبادرات جديدة. فقد فقدت البدائل التقليدية لحركتي فتح وحماس – فوضى الفصائل التي كانت حاضرة في الحركة الوطنية الفلسطينية على مدى عقود - معظم حيويتها، ولايبدو أن هناك قوة جديدة تحل محلها. ولمن لا يعرف فقد بنيت حركتا فتح وحماس، على الرغم من كل عيوبهما، رويدا رويدا على شبكة من الفروع المحلية، وربطتا بجميع أنواع الهياكل والمنظمات الشعبية والجمعيات المحلية بطريقة جعلتهما جزءا لا يتجزأ من المجتمع الفلسطيني.. من الصعب طبعا بناء مثل هذه الحركة بين عشية وضحاها، بيد أنه ليس ثمة علامات تذكر على أن مثل هذه الجهود قد بدأت حتى الآن فى القطاعات حيث يمكن أن يتوقع أن تظهر منظمات جديدة، مثل الاتحادات الطلابية والجمعيات المهنية والمخيمات والأحياء المختلفة، لا تزال تسيطر عليها الفصائل القديمة – أو لا تزال في سبات أحيانا. ما يبدو للناظر من الخارج أنه قوة التفكير الإيجابي، يبدو في غالب الأحيان توهما كبيرا للناظر من الداخل.. فمن النادر أن تسمع عن شعور قسري بالتفاؤل من الفلسطينيين أو الإسرائيليين، ربما باستثناء المتطرفين سياسيا الذين ينظرون إلى الاتجاهات الحالية باعتبارها تبريرا لمواقفهم المتطرفة. يتمثل الانتقاد الرئيسى للفهم القاتم للحظة الراهنة، في أن الاستسلام للتفكير الانهزامي لا يقدم أي حل بديل.. ومن الصعب الرد في هذه الحالة إلا إذا ما أردنا القول إن هذه البدائل ربما كانت موجودة – مثل جدية المصالحة الفلسطينية – لكن حتى هذه البدائل قد تفقد ما كانت تنطوي عليه من آمال.. بالنظر إلى المصالح الراسخة والقادة الضعفاء والتفكير قصير المدى، لا يمكن إلا الاستخلاص أنه من المستبعد أن يقدّم أي من أطراف النزاع أو أي جهد دبلوماسي خارجي، إمكانية واقعية للتغيير. وفي ظل هذا القدر الكبير من الاضطراب الذي تشهده كل البلدان المجاورة، يبدو من المرجح أكثر أن أي فرص جديدة – بغض النظر عن النتيجة – ستنبثق من تغيير غير متوقَع في بيئة إقليمية شديدة التقلب.. وإذا لم تحدث مثل هذه الصدمة غير المتوقعة، فسيكون عمر الوضع الحالي أطول من عمر أكثر ممن يصفونه الآن بأنه وضع لا يمكن أن يدوم.