أيا كانت تصنيفات الواقع والأهواء المنتقدة له وللسلطة الحاكمة، فهي في أغلبها وليدة لحظة انفجار غاضب، قد يشوبه بعض التقديرات الخاطئة؛ وبالتالي فإن النقد السياسي الموجه لتلك اللحظة قد لا يكون شفافا وذات مصداقية وموضوعية، والعيب في مثل هذا النقد غياب المعلومة والوثيقة الحقيقية، حيث لا يكون مطروحا على ساحة الرأي العام إلا التكهنات والإشاعات والمعلومات التي تم تسريبها عن عمد لتشويه العقل الناقد وتعطيل الحراك السياسي المصحح للعوج العام. ومن هنا يأتي دور المؤرخ والأديب، ومساحة الجدل بينهما فيمن هو صاحب الرؤية الأدق الراصدة للحدث الذي شكل كارثة ما على مستوى الواقع، وثالوثه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وتبقى الإشكالية قائمة لا يفك عقدة خلافها إلا مرور الزمن، حين يتم الاطلاع على ما أنتجه المؤرخ والأديب من نصوص ترصد هذا الحدث. بداية يجب الاعتراف بحقيقة أن الحدث وراءه قرار قد أطلقه صاحب سلطة، وليكن مثلا حدث مثل حادثة القطار الأخيرة في محطة مصر، فسنرى المؤرخ يدونه باعتباره حادثة نتيجة لإرهاب أو إهمال (حسب ما ستفسر عنه نتائج التحقيقات) وهو في نهاية الأمر نتيجة لقرار سياسي متعلق بمسألة تطوير هيئة السكة الحديد، وسيدون بالطبع مواساة السيد الرئيس أسر الضحايا من الشعب المصري. أما الأديب فلا يرصد الحدث كما رصده المؤرخ، ولكن سيرصده بعين أكثر شمولية وإنسانية وتعاطفا، سيرسم ملامح مأساة الحدث، وألسنة النار في أجساد المصريين الفقراء، سيختار قصة لشخصية حقيقية كانت تهرول والنار تلاحقها، وقد تكون تلك الصورة لضحية رأيناها جميعا على شاشات التلفاز. في حين أن مثل هذه الشخصية قد يغفلها المؤرخ عن سوء تقدير أو عدم اهتمام بالشخصيات التي عانت من الحدث؛ لأن ذلك خارج نطاق اختصاصه العملي والتأريخي والسياسي. سيكتب الأديب تاريخ هذه الشخصية بينما سيدون المؤرخ قرار سيادة الوزير أو رئيس مجلس الوزراء أو رئيس الجمهورية حول هذا الحدث. وعندما تتصفح الأجيال القادمة كتب التاريخ ستمر مرور الكرام على الحادث، ستصفه مجرد حادث عابر، بينما ستعلم وستبكي القلوب قبل العيون وستندهش عقول أحفادنا عندما يطالعون الحدث بين دفتي رواية، كما بكينا حين طالعنا حريق القاهرة والنكسة في الروايات المصرية. وتبقى عين حراس (ن والقلم ومايسطرون) في مصر، بلادنا التي مهما حاول البعض تزيف وعي شعبها وسرق دولتها العظيمة منبرا حرا مستقلا وواعيا ومستنيرا، تسعى في بذر حروف الحقائق ونشر المعرفة والمصداقية، هي عين ترصد وتنقل أحداث مصر في صمت ورسوخ معابد أجدادنا المصريين القدماء.. فلا تستهينوا بمكر(ن والقلم وما يسطرون).