من الإنصاف أن أذكر أن " المشهد " يتيح بالفعل هذه المساحة ، ولكن ماذا تعني الكتابة في زمن تضآلت فيه ظاهرة القراءة ؟ .. لقد أختطفت الفضائيات عيون وعقول ووقت الإنسان المعاصر ، وتحول ذلك الإنسان إلي كائن سلبي يتلقي ما يصب في عقله دون مجهود في البحث أو الإمعان أو التفسير ، وكأن ذلك العقل مجرد معدة تبتلع دون أن تهضم ، رغم أن الطعام يتم إمتصاصه كي يضرب بعناصره حتي النخاع ، ولقد فقد الإنسان المعاصر أيضاً حياته الأسرية والإجتماعية ، فأمام شاشة التليفزيون يتجمع البشر دون أن تتاح لهم فرصة الحديث أو النقاش ، فكل واحد مختطف ويتولي خاطفوه التفكير بدلاً منه ، ويقدمون إليه الخبر والتحليل والرأي والتفسير حتي ينام كي يحلم بالكوابيس !! .. إذن ، لماذا يكتب الكاتب ؟ ولمن ؟ ...أحياناً تكون الكتابة نوعاً من التوثيق للأحداث ، وهي في ذلك تكون تقريرية جافة وإن كانت لها قيمة كبيرة للمؤرخين في زمن قادم ، وبالتالي فهي لا تهم كثيراً القارئ المعاصر ، فضلاً عن أن الكومبيوتر ووسائل الحفظ الحديثة للوثائق الأصلية قد لا تجعل هذا النوع من الكتابة ذا ضرورة ، فيمكن لأي مهتم أن يصل عن طريق الإنترنت الآن إلي أية معلومات تاريخية يريد الإطلاع عليها ، كما يمكنه أن يطلب من مراكز التوثيق في بعض الدول أن توافيه بصورة من وثائق معينة مقابل رسم معين . أحياناً أخري تكون الكتابة مجرد ملاحقة لاهثة للأحداث ، وهي بلا شك تخسر كثيراً في سباقها مع الفضائيات في هذا المجال ، وذلك بالطبع في إطار الخبر ، ولكن يبقي مجال التحليل والرأي الذي يتيح للقارئ التأمل من وضع هادئ ، والإستيعاب بشكل أفضل من مجرد مشاهدة برنامجاً للرأي في التليفزيون ، لأنه في حالة القراءة يستخدم عدداً أكبر من مدركاته بشكل لا يتوفر في اللقطة الضوئية الخاطفة التي تجتازه في ثوان معدودة ، كما أنه أمام التليفزيون قد يشرد أو يلتفت فيفقد جزءاً من تركيزه ، بعكس الكلمة المقرؤة التي يمكنه إستعادة قرائتها أكثر من مرة . وأحياناً تكون الكتابة – من وجهة نظر الكاتب – مجرد مساحة للتنفس ، مساحة حرة للسجال مع نفسه وأفكاره وخواطره ، فهو حين يمسك بالقلم في لحظة الإلهام أو الإختناق لا يفكر في القارئ ، وربما لا يعنيه كثيراً أن تتاح سطوره للنشر لأن مجرد فعل الكتابة بالنسبة له يمثل جزءاً أساسياً من جوهره كإنسان ، وهو حالة حوار مستمرة مع النفس ، وعلاقة جدلية مع الوجود والأحداث والبشر ، وهي أكثر حالات الإنسان صدقاً ودفئاً وحميمية ، كما أنها تجمع ما بين عبقرية الإبداع وخصوبة الفكر وإستمرارية التجربة . والكتابة السياسية من أخطر وأهم أنواع الكتابة ، لأنها – في الغالب الأعم – نوع من الإستشراف والتنبؤ علي ضوء معطيات تمتزج في عقل الكاتب بثقافته ورؤيته وقدرته علي الإبداع ، وهي في بعض الحالات تصبح مغامرة حقيقية قد تؤدي بصاحبها إلي السجن أو الموت ، ولكن الكاتب الصادق يشعر أن موهبته تمثل منحة إلهية بحيث تتحول إلي رسالة يحاسب عليها إذا قصر في آدائها ، ولاجدال في أهمية هذا النوع من الكتابة للمجتمع ، فهي أسلوب من أساليب التثقيف السياسي لرفع مستوي الوعي السياسي للشعب ، كما أنها تمثل نوعاً من الإضاءة لبعض المواقف التي قد يكتنفها الغموض ، ويمكن القول أيضاً أنها أحياناً يمكن أن تقدم عوناً كبيراً في التوضيح والتلميح والمساهمة في بناء المستقبل . والكاتب السياسي ليس معصوماً من الخطأ ، فهو مجرد مجتهد قد ينال ثواب إجتهاده إذا صح ، ويكفيه شرف المحاولة إذا أخطأ ، ومن المفترض أنه لا يكتب من فراغ ولكن عليه قدر الإمكان أن يتنزه عن الإصطناع والذاتية المفرطة ، وأن يحاول الإلتصاق بقضايا شعبه المصيرية بكل إخلاص وبأكبر قدر من الموضوعية . أن قراءة بعض الكتب التي كتبها بعض قدامي السياسيين حول حياتهم الشخصية أو دورهم السياسي ، تؤكد أنه مثلما يوجد نوع من أدب " الخيال العلمي " Scientific Fictionفهناك نوع من أدب " الخيال السياسي " Political Fiction ، وفي هذا النوع الأخير تتلاشي المسافات بين الواقع المعاش وبين شطحات الخيال ، فنري مثلاً من يكتب عن قراراته الخاطئة بشكل يعيد صياغتها من جديد بحيث لا تصبح كذلك أو يصبح الخطأ ناتجاً عن آخرين أو أسباب قهرية يتم صنعها أو إبداعها من جديد ، وفي هذه الحالة فأن السياسي المتقاعد يسترد الأديب المتخفي كي يأخذ من السياسة مادته الأدبية ، ويصب سيرته في ذلك القالب كي يقدم لنا بطلاً لا يختلف كثيراً عن أي بطل لرواية كتبها أي أديب ، حيث أن شخصيتها الرئيسية تمت صياغتها بخيال خصب يمزج بين الواقع والخيال بقدر ما تسعفه إمكانياته كأديب . ومن الملاحظ أن المكتبة العربية كانت فقيرة في هذا النوع من " الخيال السياسي " ، إلا أنه خلال السنوات الماضية شهدت طفرة هائلة خاصة في كتب المذكرات السياسية التي أنتشرت بشكل واضح ، وهي في أغلبها تشبه عمليات " غسيل النقود " من حيث إستهدافها خلق شخصية جديدة تم تأليفها تأليفاً ومعها حوادث لا تكاد تمت بصلة لواقعها التاريخي سوي في بعض قشور تستند عليها لإضفاء قدر من المصداقية . وهكذا يقرأ الناس ويستمتعون بأدب بعض السياسيين ، بما يتيح لهم أن يستنبطوا ما لم يتح لهم فهمه أثناء تولي السياسي لمنصبه ، حيث أن ما يكتب يظل تراثاً سوف تتأمله الأجيال المقبلة فربما فهمت بعض ما دار في زماننا السعيد ، وهكذا يقدم بعض السياسيين خدمة كبيرة للأدب والسياسة في آن واحد . ربما هذا ليس زمن القلم ، وقد يكون علي الكتاب أن يبحثوا لهم عن مهنة أخري ، كما أن إيثار السلامة وتفادي الألغام التي تختبئ خلف كل كلمة وحرف قد يكون أفضل كثيراً من حلم باهظ التكلفة ويبدو محال التحقيق ، ولعل البعض قد يقولون ما فائدة القلم في زمن القنبلة ، وما جدوي السطور في مخاطبة القبور ؟ ... وهذه كلها – بلا شك – أسئلة مشروعة بل وجدية ، ولكن ليست هذه هي المشكلة .. فالمشكلة هي أن " داء الكتابة " ليس خياراً للكاتب ، فهو مجبول علي ذلك ومدفوع دفعاً عليه ، كما أنه لا جدال في أنه في التحليل الأخير يبقي للقلم سطوته وقيمته ، وكيف لا إذا كان الله سبحانه وتعالي قد أقسم به ؟ ، وسوف تبقي للكلمة قيمتها التنويرية مهما تكاثفت السحب وطال زمن الظلام ... ------------- * مساعد وزير الخارجية الأسبق المشهد .. درة الحرة المشهد .. درة الحرة