" ولد الكاتب والروائي السوداني طارق الطيب في القاهرة وعاش بحي عين شمس فكان أن التصق بالحياة المصرية وتأثر بها ليشعر بثورتها ويتفاعل معها حتي وهو بعيد عنها، حيث يعمل كأستاذ جامعي بالنمسا، تنوع إنتاجه الابداعي ما بين القصة والرواية المسرحية والشعر مروراً بالفن التشكيلي حيث يري أن الإبداع الجاد يثير الوعي بالحرية والذان بدورهما يؤديان إلي الثوره،الثورة من أجل التغيير. فكان معه هذا الحوار: كيف تري الثورات الحالية التي تجتاح منطقتنا العربية؟ - الثورة كانت ضرورية، لقد عشنا حقبة ديكتاتورية عصيبة وما زلنا، حيث عاش الكثيرون حالات اغتراب نفسي داخل الوطن لسنوات طويلة، وأصعب أنواع العزلة أن تكون وحيدا وسط الجماعة. الثورات كانت مفاجئة، حتي إن البعض لم يفق بعد من المفاجأة. الآن المجد يجتاح أمكنة جديدة مقابل دم الشهداء للأسف. ستتغير الحياة العربية وشكلها في الحقبة القادمة بلا شك، لكن بعض النفوذ المادي من بعض الدول المعرقلة للحريات والتغيير سيعيق هذا الاندفاع إلي حد ما، بعض الأنظمة العربية تصرف الآن الملايين لإبعاد «وباء» الثورة عنها، لكن العزاء الآن لانفتاح العالم عبر الفضاء وللوعي القادم عبر وسائط لم نكن نتخيلها قبل عقدين من الزمان، الثورات دائما تفوز في النهاية، فهي ليست مجرد انقلابات، لكن الأعراض الجانبية الملازمة لأي ثورة تستغرق بعض الوقت لتنظيم الصف واستعادة صفاء الحياة وفي النهاية يظل المجد دوما للثورات والشرف للشهداء والسؤدد للثوار! ما تأثير هذه الثورات علي الحركة الأدبية وما دور المبدع فيما تمر به البلاد من أحداث؟ - الثورة لابد أن تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر علي الحركة الأدبية، لكن علي المدي الطويل، فالحراك الأدبي ليس حالة سياسية، والحراك الثوري يمس معظم الإبداع من الأساس، لأن دور المبدع من الأصل هو محاولة إشراك القارئ أو المتابع أو المشاهد في رؤية جديدة مختلفة للحياة، محاولة إعطائه بضعة مفاتيح لأبواب الوعي، والوعي يقود بدوره للحرية، والحرية تؤدي بالضرورة للثورة علي الأوضاع الفاسدة، وبما أن الكثيرين من المبدعين الأصلاء مشاركون منذ الأزل في الثورة علي الأوضاع عبر إبداعهم، ففي اعتقادي أن هذا الدور لن يتغير وسيكون له أثر أكثر إيجابية علي المدي الطويل. لا أعول كثيرا علي الكتابات الانفعالية التي تتبع الثورة مباشرة، رغم أهميتها في إذكاء الحماس والترابط، وأتمني أن تؤدي الثورة إلي تغيير في البنية الثقافية وأن تمنح الثقافة دورا أكثر فعالية، فنحن في حاجة جادة لتغيير يؤدي فعلا إلي تغيير. كيف تري المشهد العربي الإبداعي بصفة عامة والسوداني بصفة خاصة؟ - المشهد العربي الإبداعي بخير، من ناحية توافر المبدعات والمبدعين وظهور عدد كبير من الشباب المتميز الذي يشتغل بجد في حقل الإبداع، المشكلة تكمن في أدوات توصيل عمل المبدع للمتلقي، الأوعية الأدبية المتاحة شحيحة وقاصرة، والثقافة مازالت موضوعة في مكان أقل أهمية، السياسي مازال يأخذ نصيبا أكبر من موارد الدولة مقابل التعليم والصحة والثقافة بوجه عام. الجهات المختصة بتكريم الإبداع والمبدعين تعمل بشكل مدرسي لتكريم التلاميذ "الشطار" في المؤسسات. التلميذ الذي لا يثير غبارا و"دوشة" يتم تكريمه ليكون مثالا لآتٍ مماثل ماثل خاضع لتكريم ممنهج، وما ينطبق علي العالم العربي ينطبق علي السودان مع قدر أكبر من الغباء الإداري في تلقي الإبداع الفني والأدبي من قبل الإدارة السياسية وحكومة تتمتع بخلفية عداء للثقافة تدخل بجدارة في موسوعة "جينيس"، في بلادنا العربية لا ىُستفاد من الأدب في التنوير والتطوير. حين يتغير الاعتقاد من أعلي رأس في الدولة بأن الثقافة والفن ليسا شيئا كماليا أو ترفيا نكون قد خطونا خطوة أولي للأمام. كروائي ما الذي تحتاجه الرواية كي تصل للقارئ بسهولة؟ وهل لدينا ما يمكن وصفه برواية ناضجة مستوفية الشروط الفنية والسردية؟ - لو أنني أعرف هذه الوصفة السحرية للرواية الناضجة لكتبتها ومنحتها للقاطفين. أعتقد أن ما تحتاجه الرواية هو من خارج الرواية نحتاج إلي قدر أكبر من التعليم وقدر أكبر من التشجيع علي القراءة من فترة ما قبل الحضانة، لأن الكاتب سيكتب فيما بعد كتابة حرة يحاول القارئ أن يفكها ويحللها ويعيها. الكاتب الذي سيقدم الرواية كساندويتش أو وجبة سريعة للقارئ يضر به وبنفسه. الكتابة تحتاج لتذوق واستساغة وهضم وقدر أكبر من الوعي، والوعي يأتي من استيعاب الكثير: ثقافة عامة منها الشفوي والمدرسي والفني وغيره، ثقافة علمية و دينية لا تقاطعات بينها. ثقافة تتنافس في تقديم أفضل العروض في سوق الحياة. ويكفي هذا لإيجاد "ميكانيزم" صحي للعرض والطلب الثقافي بشكل صحي وراق. ازداد عدد كتّاب الرواية في الفترة الأخيرة، فما السبب في هذه الظاهرة؟ وهل هذا استسهال لفن جاد؟ الرواية تحظي حاليا بقدر أكبر من القراءة والاقتناء عن الفنون القريبة منها مثل القصة القصيرة والشعر والمسرحية. دور النشر أيضا قد لا تتردد في نشر رواية متوسطة القيمة، قد تحقق قدرا معقولا من العائد وتتردد كثيرا في نشر الشعر الجيد الذي لا يدر عائدا في الوقت الحالي. بعض الكتاب غير بريئين أيضا حين يركبون الموجة والموضة بمط قصة قصيرة لتكون رواية أو تجميع خواطر عشوائية لتركيب عمل طويل مهترئ يسمونه رواية. كل الفنون التي تدر مالا أو شهرة يدخلها أفواج من البشر وفي ذهنهم غرض واحد: الشهرة أو المال أو كلاهما. الكاتب الأصيل الجاد لا يهتم باللمعة والبريق الخاطف، يعمل في دأب وإخلاص، قد يستاء أحيانا من قلة أو انعدام التقدير لكنه يحترم نفسه وكتابته ولا يبتذل فيها. كيف تري انتشار رواية السير الذاتية مؤخرًا رغم أن متذوقيها محدودون؟ - لا أظن أن متذوقي رواية السيرة الذاتية محدودون، اتخيل العكس، القارئ العام السطحي بطبعه يسعي للبحث عن الأسرار أو بالأصح عن الفضائح، وقد يلجأ لشراء رواية السيرة الذاتية ليبحث فيها عمّا يظنه أسرار الكاتب. السؤال بهذه التركيبة متناقض فإذا كانت رواية السيرة الذاتية منتشرة فهذا يعني أن لها قراء كثيرين، فالانتشار هنا ليس من الأمراض وإنما باقتناء متزايد وفي هذا الاقتناء المتزايد انتشار وتوزيع لرقعة أكبر علي القراء. الرواية العربية إلي أين تتجه وتسير ولماذا تتسيد المشهد الأدبي؟ - لا أعرف إلي أين تسير الرواية العربية، لكنها بالتأكيد قد قطعت شوطا لا بأس به وسط الآداب العالمية، فما زالت مجتمعاتنا تنتج من القسوة والتسلط ما يتيح للأدب العربي- والرواية علي وجة الخصوص- أن تستمر لعقود قادمة بتنويعات مبتكرة، فمعين الكتابة لا ينضب، والباعث علي الحراك الفني يتجدد باستمرار. المشكلة هي قصور الأوعية القابلة ماديا وذهنيا في استهلاك هذا الفيض الغامر من الأدب، بل إن الإقصاء والتهميش للأدب الجاد يحدث باستمرار مغيباَّ شريحة مفيدة من الأدب الأهم مقابل الأدب السلطوي أو الخاضع. تتسيد الرواية المشهد الأدبي لأن الناس تعشق قراءة الحكاية كحكاية أكثر من كونها طريقا للوعي، وترغب في البعد عمَّا تعتبره تعقيدا مثل الشعر والفلسفة أو المقالات التحليلية ناهيك عن العلمية. كيف تري الجوائز العربية وهل كثرتها مؤشر حقيقي علي وجود حركة إبداعية؟ - الجوائز العربية ليست كثيرة بالمقارنة بمثيلاتها في الغرب الذي أعيش فيه مثلا، من المفترض أن تُمنح الجوائز في سن مبكرة للتشجيع وتُمنح متأخرة للتقدير مع القيمة المادية المحترمة، الشاعر هنا في الغرب يمكن أن يقول عن نفسه إنه شاعر بلا حرج ويكتب مهنته في جواز سفره: "شاعر"، ويمكنه أن يعيش من يده المبدعة أكثر كثيرا مما هو الحال لدينا.الجوائز العربية ليست مؤشرا حقيقيا علي جودة أو وجود الحركة الإبداعية. بعض الدول العربية تمنح الجوائز لأغراض الولاء والانتماء أو لأسباب أخري بعيدة عن الإبداع. بعض الدول لديها جوائز ذات قيمة معنوية أكثر من قيمتها الأدبية. العوز قد يدفع الأديب في بعض الأحيان للتنازل عن بعض شروطه وقيمِه من أجل المال لظروف عائلية أو أسرية أو رغبة في الإحساس بالتقدير بعد زمن. هناك كثير من الخلل في الجوائز العربية وشبهات حول لجان التحكيم، نسمع عنها، وتحتاج إعادة الثقة لتقييم جريء للمغيبين من المبدعين المتميزين في الأقاليم المنسية للبلاد العربية. في ظل تصدر الرواية للمشهد الأدبي هل انتهي زمن الشعر؟ - لا يمكن التجرؤ بفرضية انتهاء زمن الشعر، الشعر يخبو كثيرا في ظني في أزمنة الاستبداد، الشعر سيبقي ضمير الناس. الرواية تصدرت لأنها الأسهل في التلقي. لم يتعود المتلقي أن يعمِل ذهنه لتحليل نص أو فكرة. لم يعد المتلقي يستوعب شعرا ليتمثل به. لم يعد يجرؤ علي امتلاك الجرأة وعلي إمعان التفكير. الصورة بكل أشكالها تأخذ أيضا من المكتوب عموما وتقصيه.الشعر لن ينتهي إلا باستغناء الإنسان عن ضميره! تقيم في الخارج فكيف تري حضور الأدب العربي في الخارج؟ - حضور الأدب العربي في الخارج حضور معقول. كان يمكن له أن يكون أفضل وأرفع، لو أننا نحن أيضا اهتممنا بتوصيل آدابنا للغرب بشكل جيد ومناسب. نحن لا نستطيع تسويق أنفسنا أدبيا بما يتلاءم في الداخل. لدينا عربيا الكثير من العُقَد والتخلف والوهم ما يجعل بعض الدول الصغيرة جدا تتفوق علينا إجمالا في التواصل والترجمة. الموجود والمتاح حاليا من الأدب العربي في الخارج معقول، لكنه ليس في مستواه الأمثل. البعض من الموجودين بالخارج يحاولون إعطاء صورة موفقة عن الأدب العربي والبعض الآخر يقدم صورة ملفقة. الوضع الحالي ليس رائعا وليس سيئا.