عقب ثورة 3 يوليو 1952 توقف نجيب محفوظ عن الابداع الروائي والقصصي. كانت "بداية ونهاية" هي آخر ما كتب قبل الثورة. وانشغل محفوظ بكتابة السيناريو السينمائي بضعة أعوام. ثم توفر علي عمله الفذ "أولاد حارتنا" الذي صدر في 1959. وفسر نجيب محفوظ صمته الروائي والقصصي طيلة تلك الاعوام بأنه كان قد أدان مجتمع ما قبل الثورة في ما صدر له من روايات. سواء في المرحلة التاريخية التي تضم عبث الاقدار ورادوبيس وكفاح طيبة. أو في مرحلة الواقعية الطبيعية التي بدأت بخان الخليلي. وانتهت ببداية ونهاية. فلما قامت الثورة شعر أنه لم يعد لديه ما يقوله. لذلك كان اتجاهه إلي القضايا المجردة كمغزي الحياة والمصير الانساني والعدالة وغيرها. وهو ما تبدي في اللص والكلاب والطريق والسمان والخريف والشحاذ. وحين طرأت علي المشهد بعض السلبيات بدأ نجيب محفوظ مرحلة الواقعية النقدية التي شملت العديد من الروايات المهمة. تؤرخ للحياة المصرية. وتدين أبعادها السلبية. وإذا كان الادباء قد تناولوا في أعمالهم الابداعية ما مثل ارهاصات حقيقية لثورة الخامس والعشرين من يناير. فإن السؤال الذي يفرض نفسه: ما القضايا التي يتناولها الابداع في سني الثورة الوليدة؟ يذهب د. حسن فتح الباب إلي أن الثورة 25 يناير التي اشعلها شباب مصر. تعد نقطة فارقة في الادب المصري خاصة. والادب العربي عامة. ذلك ان ما قبل هذه الثورة لن يكون بعدها. رغم انه كانت هناك ارهاصات كثيرة باندلاع ثورة عارمة يكون عمادها أدب المقاومة الذي طالما نادي المثقفون والمبدعون الاحرار بارتياد طريقه حتي تخلص من الظلم والظلام. فكثير من المبدعين والمفكرين كشفوا عن الفساد والطغيان اللذين كانا يهيمنان علي مصر. وإلي جانب هؤلاء كان هناك المنافقون من خدم السلطان الذين كانوا يزينون الباطل وينجدون الطغيان. ان علي اتحاد الكتاب وكل اجهزة وزارة الثقافة ان تفسح الطريق للاقلام الصادقة التي كانت تنذر وتبشر. فالظلم لم يكن يحيق فقط بالفقراء. وإنما كان يشمل أيضاً الكثير من الادباء. فتنسحب عنهم الاضواء في حين تسلط علي خدم السلطان. وفي رأي أحمد الشيخ ان هناك مراحل في التاريخ البشري. يكابد فيها البشر. ويعانون. ويصلبون علي الجدران. حدث هذا في ما بعد المسيح. وفي ثورة اسبرتاكوس. هذه مراحل في التاريخ. كانت الناس تكبت فيها ما تعانيه. أما المراحل التالية فهي الثورة التي تريد الخلاص. ما حدث كان لحظة تراكم العقل الجمعي. تتلاطم فيها المشاعر والاحاسيس.ومن ثم تتلقاها أشكال الفنون المختلفة. فيظهر لنا ما حدث في ميدان التحرير. حيث تأثر الناس بما حدث. وما أحدثه الشباب. والتف حولهم الجميع. قبل ذلك كانت مرحلة العتمة. وفيها الهبوط الاجتماعي والظلم الطبقي وتصاعد كمية التعسف والسرقة والخطف واستباحة كل شئ.. سنجد كل ذلك في الكتابات التي كتبناها. وفيها هذا الوجع والألم. ومن ثم تكون فكرة المقاومة. ثم يأتي النهوض. هناك مخاطر. وهناك كتابات سوف تتناول ما حدث بالطبع. وستكون هناك أشياء ناقصة. أي يحتاجها المجتمع. وتتمثل في ما افرزته الثورة. وعلي الكتاب والادباء وأساتذة الجامعات والمفكرين أن يتناولوا مثل هذه القضايا. كل هذا سيحدث. ولكن في جو من الامن والأمان. لقد كتبنا كتابة القلق. كنا نشعر- ونحن نكتب- بالخطر. لكن الآن سيكتب الناس في جو من الامان النسبي. ولن يكون في المجتمع تناقضات حادة. من يطلع علي ما كتب في المرحلة السابقة. سيجد ان الكتابات كانت مقدمات وارهاصات لما حدث. وان التغيير قادم لا محالة. ما حدث يعد معجزة تحدث عنها العالم. خرج الفقير والغني. وذوبت الفوارق بين الطبقات. لدينا الآن تطلعات نحو المستقبل. بعد ان ازحنا الخطر المتربص بنا. هناك مليون قضية انسانية لم تحسم.. كل ما في السابق اننا كنا نقول ان هناك حاجة غلط. والآن نحلم بأن تتحقق أشياء حقيقية ملموسة علي أرض الواقع. وفي تقدير د. حسين حمودة أن هناك وضعاً أدبياً جديداً يمكن أن تتضح معالمه في الفترة القادمة. لكن هذا لايعني بالضرورة أن الادب نفسه سوف يتغير. أعني أن سياق النشر يمكن أن يزدهر بدرجة أكبر. كما يمكن لهامش حرية التعبير أن يصبح أكثر اتساعاً. أما علي مستوي الادب نفسه. فإنه يمكن أن تدخل إليه موضوعات جديدة. تتصل بالاحداث الكبري التي مرت بها مصر منذ 25 يناير. ولكن سيظل الادب الحقيقي كما كان دائماً في كل الثقافات. وفي كل الفترات التاريخية. باحثا عن الانسان. ومستكشفاً لأبعاد الواقع. وهكذا الادب الحقيقي استطاع- حتي في أحلك الفترات وأشدها قمعاً- أن يعبر عما يريد التعبير عنه. لكن هناك فنوناً أخري. هي الفنون الجماعية مثل المسرح والسينما. سيلحق بها- فيما أتصور- تغير كبير لصالحها. لأن مثل هذه الفنون تحتاج إلي مناخ من الديمقراطية الحقيقية. وبالتالي يظل الانتاج الجاد منها مرهوناً بالمجتمع. علي عكس فنون الادب الفردي. لذلك اتصور ان الفترة القادمة ستكون لصالح الابداع المسرحي الحقيقي. والابداع السينمائي الجاد. وكلاهما قد تواري. أو ربما اختفي إلي حد بعيد. في الفترة الماضية. والسؤال- كما يقول د. سعيد الوكيل- يبدو كأنه يؤكد الامل في نجاح الثورة. فنحن الان نتحدث عما بعد نجاح الثورة. والحقيقة أننا لانزال نخطو الخطوات الاولي مع الثورة. وان كنا نأمل في النجاحات. فلا نيأس إذا ما واجهتنا العثرات. ومع اقتراب النجاح الكامل لهذه الانعكاسات المؤكدة في شتي المجالات. بما في ذلك الادب والفن. لكن علينا أن نتنبه إلي أن الادب ليس انعكاساً مباشراً للأحداث. وان عظمت كما في حال الثورة. بل ان هناك مسافة نسبية بين الحدث والاثر الادبي. علينا اذن الا نسارع إلي القول بأننا سنجني أدبياً ثمار هذه الثورة المدهشة. وعلينا أن نلتفت- من ناحية أخري- إلي هذه الثورة التي توازي معها. وتخلق في رحمها. غير قليل من الابداع الجمالي. ولعلنا لاحظنا كيف ابدع الثوار في ميدان التحرير علامات فنية وجمالية مبدعة. هل نسيتم النكت الطريفة واللاذعة التي صاحبت الثورة؟ هل سيتم أولئك الفنانون الذين افترشوا الارض ليرسموا صوراً. ويبتكروا قصائد تمثل أيقونات جمالية حقيقية للثورة؟.. الثورة إذن ابدعت الكلمات. وابدعتها الكلمات. علينا كذلك ان نلاحظ ان هذه الثورة هي ثورة شعب بأكمله. لم يثر من أجل لقمة العيش. بل من أجل الحرية والكرامة من قبل ومن بعد. فاذا حققنا شيئاً غير يسير من هذين المطمحين. الا تتوقعون ان تنفث هذه الروح الجديدة إلهاماً ما في نفوس عاشقي الحرية؟ أليست الحرية هي الوجه الآخر للإبداع؟. فلنتوقع إذن ابداعاً عظيماً في مقتبل الأيام. ويشير الروائي نبيل خالد إلي أن نجيب محفوظ كتب "الكرنك" بعد 15 مايو. وفضح فيها الممارسات السيئة لبعض الطغاة الذين أذلوا الشعب المصري في الاجهزة الامنية. وأوضح نقطة جميلة ان نصر أكتوبر نتيجة تحرر الشعب المصري من الخوف. من تلك الممارسات الوحشية التي كتب عنها الكثيرون. وبعد 25 يناير سيتم فتح الملفات: الخوف الذي كان يعيش فيه المصريون بسبب الملاحقات الامنية. وبعد أن تظهر حقائق لم نكن نعلم أن المليارات التي نهبت بواسطة رجال السلطة. فكلما تتكشف هذه الحقائق. كانت هناك مادة خصبة للأديب كي يكتب عن العصر. ولا يستطيع أن يسجل شهادته إلا بعد انتهاء مرحلة معينة. وبثورة 25 يناير انتهي الحكم الاستبدادي الذي عشنا فيه 60 عاماً. سنبدأ من هنا الكتابة عن عيوب وسوءات هذا النظام الديكتاتوري. وعقد المقارنة بينه وبين ما قبل 52. وهذه المقارنة تفيد في المستقبل للتعرف إلي آفاق المستقبل. والاخطاء التي وقعنا فيها. فلو نظرنا إلي رائعة نجيب محفوظ "القاهرة 30 هل سنجد فرقاً بينها وبين القاهرة 2011؟.. نحن نأمل أن تكون هذه هي نهاية عصر الديكتاتورية حتي يستطيع الادباء الكتابة بحرية في الأمور التي لم تنكشف بعد. ذلك .