سبق لي أن كتبت كثيراً عن أوضاع ليبيا سياسياً وأمنياً وإقتصادياً ، ولكنني لن أنسي زياراتي المختلفة لذلك البلد العربي الشقيق إبان حكم العقيد / معمر القذافي ، و لا شك أن كثيراً يعرفون من هو العقيد كسياسي ، وهو لا يحتاج إلي تعريف في هذا الجانب ، ولا شك أيضاً أنه كان هناك من يعجبون به ، ومن لا يعجبون به ، ولكنه يظل مثيراً للجدل منذ نجاح ثورته في الفاتح من سبتمبر 1969 وحتي نهايته المأساوية .. أن ذلك الرجل لم يتوقف عن مفاجأة العالم بأقواله وأفعاله ، ولا بد أن هناك الكثير مما يمكن أن يقال عن أسلوبه الفريد في الحكم ، ومعاركه المستمرة علي مدي ما يزيد عن أربعين عاماً في الحكم ، إلا أن ذلك ليس الهدف من هذا المقال ، فقصاري ما نبتغيه هو أن نقدم جانباً آخر للسيد الأخ العقيد ، جانب قد يكون خافياً حتي الآن ، وأعني كتاباته الأدبية ، وفي ذلك لا نستنثني " الكتاب الأخضر " ، حيث أن سيادته قدم للمكتبة العربية مجموعة قصصية بعنوان " القرية .. القرية ، الأرض .. الأرض ، وإنتحار رائد فضاء ، مع قصص أخري " ، وبطبيعة الحال سوف نضطر أحياناً للجوء إلي الكتاب الأخضر بإعتباره أساس نظري فكري قد يلقي بعض الضوء علي أسلوب الأخ العقيد كأديب وليس كسياسي . لم يكن الرجل يؤمن بالبرلمانات ولذلك كتب عن الديمقراطية في الكتاب الأخضر : " لا نيابة عن الشعب ، والتمثيل تدجيل " ، والتمثيل هنا ليس التمثيل السينمائي أو المسرحي ، أو أي نوع آخر من التشخيص ، وإنما المقصود هو التمثيل النيابي ، والأدب يمكن إعتباره من زاوية معينة نوعاً من التمثيل ، بإعتباره إنعكاس لما في نفس الكاتب ، وذلك موضوع شديد التعقيد كانت مدرسة النقد النفسية قد تناولته بتفصيل كبير لعل ما يهمنا منه هنا هو أن تفهم النص يتطلب تفهم نفسية الكاتب ، وأن نفسية الكاتب يمكن إستشفافها من خلال النص . في قصة " المدينة " –وهي أولي قصص المجموعة - يصب الكاتب –العقيد- جام غضبه علي " المدينة " فهي " مقبرة الترابط الإجتماعي " وإنسانها معزول محبط أناني ضائع لا مبالي بعكس القرية وإنسانها فهي نظيفة هادئة مترابطة .. إلخ .. إلا أن أجمل قصص هذه المجموعة وأكثرها دلالة هي قصة " الفرار إلي جهنم " ، أنها قصة الإنسان في مواجهة " العقل الجمعي " ، أو " عقلية القطيع " ، أن البطل يحب " حرية الجموع ، وإنطلاقها بلا سيد وقد كسرت أصفادها " ولكنه " كم يخشاها ويتوجس منها " لأنها " كم هي عطوفة في لحظة السرور ، فتحمل أبناءها علي أعناقها ، فقد حملت هانيبال ، وباركليز و سافونارولا وداونتسون وروبسبير وموسيليني ونيكسون .. وكم هي قاسية في لحظة الغضب ، فتآمرت علي هانيبال وجرعته السم ، وأحرقت سافونارولا علي السفود ، وقدمت بطلها " داونتون " علي المقصلة ، وحطمت فكي روبسبير .. وجرجرت جثة موسيليني في الشوارع .. وتفت علي وجه نيكسون وهو يغادر البيت الأبيض بعد أن أدخلته فيه وهي تصفق " .. أننا هنا أمام بطل خائف من المصير ، ويكاد يشي بأنه يعرف المصير ، وينتظره ، ويعذبه الإنتظار .. ويمكن أن نضيف إلي ذلك التراث " الأدبي " للعقيد ، خطاباته المرتجلة التي كانت بدورها إبداعاً أدبياً وفنياً لا يمكن إهماله ، وأستطيع هنا أن أورد مئات الأمثلة ، ولكنني أكتفي بالإشارة إلي إجتماع حضرته مع العقيد ضمن ممثلي دول أجنبية ، وكنت الوحيد الذي يتحدث العربية بينهم .. كعادته أسترسل العقيد في الحديث منتقلاً من موضوع إلي آخر ، بينما يقوم المترجم بالترجمة ، ولاحظت أن المترجم لا يلتزم بحديث العقيد ، بل أنه أحياناً يؤلف الحديث تأليفاً .. وقد أتيح لي بعد ذلك أن ألتقي بذلك المترجم الذي قال لي معتذراً أن ذلك كان شبه إتفاق يعلمه العقيد ، بحيث يقول ما يشاء ، بينما يتولي المترجم نقل موضوع مرتب إلي آذان الأجانب ، وبالتالي فأن التليفزيون الليبي يذيع في المساء حديث الزعيم وهو يشخط وينطر في الممثلين الأجانب ، بينما الحقيقة أن هؤلاء الممثلين كانوا يستمعون إلي حديث عاطفي آخر !! .. لا أنكر أنني أستمتعت كثيراً بقراءة هذه القصص بغض النظر عن أية آراء فنية يمكن أن تكون قد تناولتها ، ومصدر المتعة الأول هو أن هذه القصص تتيح الغوص في نفس وعقل الكاتب مهما بالغ في التمويه واللجوء للرمز أو الأسطورة ، أن سطور الكاتب هي بشكل ما بصمة نفسية تكشف عن بعض جوانب الكاتب ، فتلك السطور بما تحمله من تراكيب لغوية ترد كمرآة عاكسة بعض الأضواء علي شخص الكاتب ، بل أن علاقة الحروف ببعضها البعض ، وإنتقاء الكاتب لكلمة بعينها في إطار معين تتحدث كثيراً عن فهم الكاتب ورؤيته للحياة . وقد كان أحد مصادر المتعة أيضاً أنني قرأت هذه الأعمال الأدبية من خلال منظار سياسي ، فأوضحت بعض ما كان يبدو غامضاً أو غريباً في مواقف الأخ العقيد السياسية ، وليس غريباً أن يكون السياسي أديباً ، فالسياسي هو أحياناً أديب ضل طريقه فاتجه إلي العمل السياسي ، وهو دائماً ذو خيال خصب يحتاجه كي يتجاوز اللحظة الحاضرة إلي آفاق مستقبل لا يراه سواه ، ولكي يلهب مشاعر الجماهير بالصور التي يلونها سواء في لحظات التحدي أو في لحظات الحلم القومي . إذن فالسياسي يحمل دائماً في أعماقه مشروع أديب متخفي ، والعكس ليس صحيحاً علي الدوام ، ومن المقطوع به أن بعض الأدباء الناجحين قد يكونون أسوأ السياسيين ، لأنه وإن كان الخيال مادة أساسية لكليهما ، إلا أن السياسي يمشي فوق الأرض بينما يحلق الأديب فوق السحاب ، وربما لا تتاح الفرصة لكل سياسي أن يعبر عن مشاعره كتابة ، ولكن يمكن دائماً التوصل إلي الأديب المبدع في أعماق أي سياسي خاصة في خطاباته المرتجلة التي تكشف الكثير من الأعماق للعين الفاحصة ، وتشير إلي أن " العقيد " لم يكن الأخير !!! .. ------------- * مساعد وزير الخارجية الأسبق المشهد .. لاسقف للحرية المشهد .. لاسقف للحرية