داخل أسوار مدرسة بالشرقية، اصطف مئات التلاميذ، والعلم يرفرف أمامهم، خرج ثلاثة طلاب يتقدم أحدهم أسفل صورة يجاورها العلم، كُتِب تحتها «النمر الرابض وسط جنوده في أرض الفيروز»، وقال: «أنا الجيش صلبًا لا ألينا.. أقسمنا ألا نركع إلا لبارينا.. من جبال مصر أخذنا مسكنًا.. وفى صحرائها قبورًا تنادينا.. صمتنا العزمُ.. وفى خطانا النار.. والجحيم لينظر من يعادينا»، تساقطت الدموع من التلاميذ حتى انتهاء القصيدة ورددوا التحية العسكرية بكل حماس، وكلٌّ منهم يشعر بداخله بروح الشهيد العقيد أحمد المنسى تتجول بينهم، وكيف لا ؟! فهو ورفقاء دربه أحياء عند ربهم يرزقون. يحمل سلاحه بين يديه مصوبًا فوهة البندقية نحو الأعداء، ومفتخرًا بملابسه العسكرية، وكتفه بكتفِ جنوده، يقف ثابتًا في ساحة القتال ليرسل الإرهابيين إلى الجحيم، ويحمى مقدرات الوطن، يتمنى الشهادة في كل مرة يخرج فيها للقتال، فيجدد العهد بالثأر لرفقاء دربه عندما يسمع خبر استشهاد أحدهم، ودائما كان يتوافد عليه رفقاء دربه وجنوده لسماع قصائده، مغرمين بما يقوله من أشعار وطنية تلهمهم الحماسة، حتى أتت اللحظة الحاسمة، واغتالت رصاصات الإرهاب الشهيد العقيد أحمد المنسى؛ ووصفه أصدقاؤه، قائلين: "ستظل فارسا نبيلًا، صدقت ما عاهدت الله عليه، وفى المسير نكمل". وبملابس عسكرية يرفع رأسه شامخًا، وسط تلاميذ المدرسة، قال حمزة: «نفسى أكون جندى في صفوف حراس الوطن واستكمل مسيرة بابا.. هو كان مجهز بدلتى عشان نحارب الإرهابيين سوا بس ربنا اختاره». «كان لما يشوف إنسان محتاج مساعدة لا يتردد في تقديمها.. حب الخير بيجرى جوه دمائه، يملؤه الغضب عندما يرى محاولة لاستهداف دور العبادة.. فالصلاة أقيمت عليه في المساجد والكنائس.. كان بيقوللى إن ربنا لما يختارنى مع الشهداء ما تخافيش علشان اللى مع ربنا لن يضيع» هكذا وصفته "منار محمد" زوجته. وأضافت أنه كتب وصيته قبل شهر من استشهاده، بألا يُغسَّل ولا يُكفن ويُدفن بملابسه العسكرية التي اشتراها مؤخرًا، وترك رسالة للإرهابيين يشكرهم على إتاحتهم الفرصة له للصلاة في أرض الفيزور ب "الأفرول"، عقب سنوات من التدريبات، وفى نهاية الرسالة كتب: "شجرة إنتى يا مصر من عمر التاريخ، أعلم أنكِ فانية، فلا شيء باقٍ، ولكنكِ باقية حتى يفنى التاريخ". ولد الشهيد عام 1977 بمحافظة الشرقية، وتخرج في الكلية الحربية دفعة 92 حربية بوحدات الصاعقة.. وتزوَّج ورُزق ب 3 أولاد، أكبرهم حمزة بالمرحلة الابتدائية.. وعمل الشهيد لفترة طويلة في الوحدة (999) عمليات خاصة، وهو من أكفأ الضباط، وحصل على ماجستير العلوم العسكرية من كلية القادة والأركان عام 2013، وعمل كملحق إدارى بالملحقية العسكرية بدولة باكستان، وعقب عودته تولى قيادة الكتيبة (103) صاعقة خلفًا للشهيد العقيد رامى حسنين عام 2016، وكتب له قصيدة "يا قبورا تنادى أسامينا.. وياموتا يعرف كيف يصطفينا"، خلال عملية الثأر للشهداء. وإبان وجوده في أرض الفيروز كتب مئات القصائد الوطنية، من بينها «بطل كل الأبطال... على مر الزمان» كتبها عن إبراهيم الرفاعي، قائد سلاح العمليات الخاصة في حرب أكتوبر 1973. وفى فجر 7 يوليو 2017، هاجمت عناصر تكفيرية باستخدام عربات مفخخة وقذائف الهاون والأسلحة الثقيلة نقطة تجمع لقوات الجيش بقرية البرث بمدينة رفح، فتبادلت القوات إطلاق النيران بكل بسالة حتى تبقى الشهيد و4 عساكر، فرفض الاستسلام أو الهرب.. قبل دقائق من استشهاده أرسل تسجيلًا صوتيًا لقيادة العمليات يطالبهم بإطلاق المدفعية على مكان وجودهم بكثرة على العناصر التكفيرية: إحنا عايشين ومش هانسيب الأرض عليها أي شهيد أو مصاب، الله أكبر يا نجيب حقهم يا نموت زيهم، الناس كلها تدعى للناس اللى هنا"... كانت ملحمة بطولية سطرها الشهيد بأحرف من نور لتتذكرها الأجيال عن شهدائنا الأبرار.