أحد هؤلاء الرجال وليس آخرهم، الجندى الذى تمكن من إنقاذ عشرات الأرواح، بعدما دهس بمدرعته سيارة مفخخة حاولت مهاجمة رتلا عسكريا يقف فى أحد الطرق السريعة بشمال سيناء، حسبما صرح العقيد تامر الرفاعى المتحدث العسكرى باسم القوات المسلحة، والذى قال فى بيان له، إن إحدى سيارات الدفع الرباعى المفخخة، اقتحمت حواجز الكمين لاستهدافه، إلا إنها فوجئت بتمركز إحدى الدبابات أمام الكمين بمسافة حوالى 200 متر ما أجبر العنصر التكفيرى، سائق العربة المفخخة على استيقاف عربته أمام الدبابة مباشرة، بهدف تفجير الدبابة وإحداث أكبر خسائر فى صفوف العسكريين وكذا المدنيين المتواجدين بجوار وأمام الكمين، إلا أن وجود 4 عناصر تكفيرية بالسيارة مسلحين بالبنادق الآلية والرشاشات ويستعدون لمغادرتها لاستهداف عناصر الكمين، استدعى انتباه سائق الدبابة، فلم يكن فى مقدور سائق الدبابة إلا تلبية نداء واجبه المقدس، فقام بالإسراع باعتراض السيارة والتصدى لها، والاصطدام بها بدافع وطنى، وبشرف العسكرية المصرية الراسخة فى وجدان كل جندى مصرى، وذلك بهدف تلقى الموجة التفجيرية فى جسم الدبابة بما يجنب المدنيين وكذا أقرانه العسكريين أى إصابات. قبل تلك الواقعة، تعرف العالم على بطولة مصرية أخرى فريدة من نوعها، ألا وهى بطولة العقيد أحمد المنسى، ذلك الشهيد الذى ظل يودع زملائه حتى لحق بهم، لم يؤثر رؤيته لأصدقائه يستشهدون واحدا تلو الآخر، إلا تصميمه أكثر على الدفاع عن أرض الوطن حتى الأنفاس الأخيرة، فوقف ثابتا فى ميدان المعركة، كتفه بكتف جنوده، يشجعهم على الثبات أمام هجوم الإرهاب الغادر، يطلق رصاصه صوب المعتدين، فيتبعونه بأسلحهتم، يصاب من يصاب منهم، فيرفض أن يترك مكانه قبل أن ينهى على المهاجمين، مردداً بين جنوده: »يا نجيب حقهم يا نموت زيهم».
فور وقوع الحادث الإرهابى، امتلأت مواقع التواصل الاجتماعى بصور العقيد أحمد منسى، وقصصا من حياته، كشفت ملامح شخصيته، فالشهيد العقيد أحمد منسى، كان فخورا بوجوده وسط أبنائه وإخوته بسيناء مدافعا عنها حاميا لها، فآخر منشور له قبل وفاته، كانت صورته بالزى العكسرى.
وفى منشور آخر نعى «منسى» العقيد الشهيد رامى حسنين، قائد الكتيبة 103، قائلا: «فى ذمة الله أستاذى ومعلمى.. اتعلمت على إيده كتير.. شهيد بإذن الله العقيد رامى حسنين.. إلى لقاء شئنا آم أبينا قريب»، وكان ذلك فى أكتوبر العام الماضى.
كان الشهيد رحمه الله محباً للشعر، فنشر فى أكثر من مناسبة أبياتا شعرية كثيرة، نعى فيها زملائه، ومنها ما نشره من أبيات شعرية فى حب الشهيد «إبراهيم الرفاعى»، بطل من أبطال حرب أكتوبر، فقال: «بطل كل الأبطال.. على مر الزمان.. قاهرة المعز يا مصر الفداء.. درة التاج أنت ونبع الصفاء.. سألت التاريخ عن يوم مولدك.. وهل يشهد الأبناء ولادة الآباء».
وفى منشور آخر عبر فيه عن حبه لوطنه، فكتب أبياتا شعرية، تظهر هذا الحب، وكانت الأبيات، هى «شجرة أنت يا مصر من عمر التاريخ.. أعلم أنك فانية فلا شىء باق ولكنك.. ستفنى عندما يفنى التاريخ».
كما كتب عن عبدالرؤوف جمعة، من قادة القوات المسلحة، قائلًا: «بالله عليكم تقروا قصة البطل دة وكملوها لآخرها.. البطل ده قدوتى ومثلى الأعلى.. البطل ده جندى صاعقة بطل مقاتل متواضع قانع وراضى، البطل ده كلمنى النهاردة فى التليفون وقال لى كل سنة وانت طيب.. أقسم بالله العظيم يا بطل أن مكالمتك عيد لوحده.. ربنا يديم عليك الستر والصحة والسعادة والرضا».
ونعى فى منشور آخر، الشهداء بتاريخ سبتمبر 2016، قائلًا: «يا قبورا تنادى أسامينا.. ويا موتا يعرف كيف يصطفينا.. سطوة الموت لن تغير لقبنا.. فنحن أحياء للشهادة سائلينا.. (ميت ) لقب من هو دوننا.. والشهيد اسم من بالروح يفدينا.. مهنتى الشرف والمجد أجنيه.. وحب القلب للقلب يرضينا».
وفى يوليو 2016 الماضى نشر بعض الأبيات فى حب مصر، قائلًا: «انتصر لمصريتك يا مصرى.. فأنا لمصريتى والله لناصر.. اسلمت لله وجهى اولا.. ولمصر جسدى والعينان تسهر آمنت بالهى وعروبتى.. وبمصر وطنى عن بعدها لا اصبر».
بينما كان الشهيد المنسى، يواجه بكل إصرار وتحد الهجمات الإرهابية، كان فى الطريق إليه، شهيد آخر، فدائى وقوى، اسمه النقيب خالد المغربى، لقبه «خالد دبابة»، والذى استشهد خلال الهجوم الإرهابى الخسيس برفح.
الشهيد خالد، تخرج فى الدفعة 108 حربية منذ 3 أعوام، ورغم صغر سنه الذى لم يتجاوز الخامسة والعشرين، إلا أنه صنع العديد من البطولات، فالشهيد كان بطلاً، من أبطال قواتنا المسلحة المرابطين فى سيناء، وأدى خدمته ضابطًا فى قوات الصاعقة برفح، حيث حقق بطولات فى تطهير أرض الفيروز من التكفيريين، مما دفع القائد العام للأتصال به مهنئًا على تلك البطولات.
كان النقيب خالد مصدر رعب للتكفيريين باصطياده لهم واحداً تلو الآخر، فقوته البدنية وسماته الشخصية دفعت التكفيريين إلى تسميته ب «الدبابة» خلال محادثاتهم التى يتم رصدها على أجهزة اللاسلكى، فعندما يقول أحدهم احذروا «الدبابة»، فإنه بالتأكيد يقصد خالد المغربى، فكانوا لا يجرؤون على القيام بأى عملية إرهابية إذا علموا بوجوده، ولذا وضعوا مكافأة لمن يقتله تقدر ب 3 ملايين جنيه.
حتى حينما أرادوا قتله، لم يستطيعوا مواجهته، بل فخخوا الطريق المؤدى إلى الكمين لأنهم يعلموا أنه سيكون أول الحاضرين، من قوات الدعم بعد استهدافهم لكمين قرية البرث جنوب رفح، لأنهم يعلمون جيدًا أن مواجهته كانت تعنى شيئا واحدا وهو سحقهم جميعا.
ومن ذاكرة الشهيد خالد المغربى، أنه كان أول المشاركين فى تشييع جنازة الشهيد نقيب محمد الأكشر وذلك بمسقط رأس الشهيدين بمدينة طوخ بمحافظة القليوبية، وقد كان صديقه هو وأشقائه.
وقبل أن تغتاله يد الغدر الغاشمة بأشهر قليلة، كان الشهيد قد تزوج فى مارس الماضى لينال الشهادة فى الحادث الإرهابى ويترك خلفه زوجته تحمل فى أحشائها طفلاً منه دون أن يلتقيه، وهذا يدل على غدر الإرهاب، الذى يفرق الآباء عن أبنائهم دون رحمة.
أصبح أيقونة للصمود، سجل أسطورته بحروف من نور، هو شاب لم يتخط ال 22 عاما، إلا أنه استطاع قبل استشهاده أن يقضى على 12 إرهابيا، هو الشهيد عبدالرحمن محمد متولى رمضان (22 عاما)، مجند من المنصورة، استشهد خلال العمليات الإرهابية على الأكمنة فى سيناء.
قائد كتيبته بكمين «الرفاعى» كشف بعد استشهاد عبدالرحمن، كيف تحامل المجند الشاب على نفسه بعد إصابته، وثابر حتى قتل 12 إرهابياً فى أرض المعركة التى دارت بين أفراد كتيبته والإرهابيين المهاجمين لهم.
قال قائد الكتيبة عن «عبدالرحمن»: «فى بداية المعركة أصيب بطلقة فى جنبه فقلت له نصا: إجمد يا عبدالرحمن، فرد يا فندم أنا جامد وقايم أكمّل، قام وضرب حوالى 12 وقتلهم وكان بيضحك وسعيد من نيشانه الصائب وعدد القتلى اللى أسقطهم، وكنا أنا وعبدالرحمن فوق المبنى لقنص الإرهابيين، وزمايلنا تحت بيرموا قنابل لحد ما ربنا كتب له الشهادة بطلقة فى الرأس، أنا والشهيد كنا على سطح مبنى الكمين للتعامل مع الإرهابيين فى الوقت الذى تعامل فيه بقية الجنود بالقنابل، علشان اللى فوق يقدر يكمل قنص وضرب، استشهد بعض الجنود اللى تحت بعد ما قتلوا معظم المجرمين، ونجحوا فى الدفاع عن الكمين لمدة ساعات تحت الضرب، والتعامل وهما فيهم اللى مصاب، ومكمل وسط إصرار كله عزيمة وإيمان».
السطورة السابقة، كشفت اللحظات الأخيرة فى حياة الشهيد الأسطورة، أما البداية فكانت عند سيرة رجب أحمد، والدة الشهيد، والتى قالت: «عبدالرحمن كلم مرات أخوه وقال لها إحنا هنحارب يوم 30 يونيو، الإرهابيين عايزين يعملوا حاجة ادعوا لنا، وحاولنا نشوف واسطة ليه يتنقل من سيناء رفض، وقال إحنا 60 واحد مع بعض مقدرش أسيبهم، يا نعيش سوا يا نموت سوا، راح الإسماعيلية الأول وبعد كده راح سينا، ابنى راجل وشهم عاش بطل ومات بطل، آخر مرة شفت ابنى كان يوم 9 مايو، وإجازته كل شهرين، لظروف الحرب فى سيناء، وهو مسافر قال ادعى لى يا أمى إننا نقضى على المخربين والإرهاب فى سيناء ونفسى أموت شهيد».
كان يعلم أنه سيكون فى يوم من الأيام بطلا كوالده الذى يخدم فى القوات المسلحة، كضابط طبيب يعالج المصابين فى العمليات الإرهابية، كان الشهيد محمد المعتز رشاد الذى تخرج من كلية إدارة الأعمال بجامعة أكتوبر للعلوم الحديثة والأداب، يتمنى أن ينال الشهادة، بعدما انتقل لأرض الفيروز، ليخدم كجندى من أبناء القوات المسلحة.
بعد تخرجه من الجامعة، تقدم محمد لنيل شرف الخدمة العسكرية، علم أنه سيقضى فترة تجنيدة بشمال سيناء، فذهب إلى هناك، عازمًا على تطهير الأرض المصرية الغالية، من دنس الإرهاب والتطرف بصحبة زملاءه من أبطال القوات المسلحة، لكنه لم يشأ أن يكون خبر تجنيده فى سيناء، مثار قلق لأسرته خاصة والده، الذى يعمل طبيبًا برتبة عميد فى القوات المسلحة المصرية.
وكان التاسع من شهر سبتمبر 2015 أول يوم خدمة له فى رفح الذى وصفه بمذكراته التى كان يكتبها قبل استشهاده «أسعد أيام حياتى، لانضمامى إلى رجال يحمون الوطن ويحمون أهلى وعرضى ومالى».
ذات ليلة، وبينما يستعد محمد لتدوين خاطرته اليومية، قرر أن تكون هذه الخاطرة، بمثابة خطاب إلى والده، العميد المعتز رشاد، يطلب منه السماح والمعذرة، فى عدم اخباره له بأنه يخدم على أرض سيناء، حرصًا على صحته وحالته النفسية.
قال محمد فى خطابه: «والله أنا سعيد جدًا، وكل حاجة فى هذا المكان مباركة وجميلة، هى سيناء كده، وحضرتك عارف، يا أبى إن كنت نلت الشهادة بأمر الله، تأكد إنى فى مكان جميل وسعيد، إن شاء الله مع الشهداء والأنبياء والصالحين، يارب العالمين يملأ قلبك بالصبر والإيمان، إنى إن شاء الله فى جنات رب العالمين الكريم الرحيم، أحلى إحساس أنا حاسه هو الجهاد فى سبيل الله، وأيضًا إنى فى مكان الأبطال والشهداء».
واختتم رسالته، قائلاً: « يارب ربنا يتقبل جهادى، ويجعله فى ميزان حسناتى، وميزان حسناتك يا والدى العزيز، وفى ميزان حسنات أمى الغالية، الله يرحمك يا أمى، لأنكم خلفتوا راجل، ربنا يتقبل منكم»، هكذا خط محمد إحدى رسائله لوالده، وأيضا لوالدته التى سبقته إلى جوار ربه.
قبل استشهاده، تم نقل الشهيد محمد، بعد إصابة إثر إحدى الاشتباكات، إلى مستشفى القوات المسلحة بشمال سيناء، وتم إجراء علمية جراحية له، لكن خطورة حالته، أدت إلى نقله إلى مستشفى المعادى العسكرى، ليتم استدعاء فريقا طبيا على أعلى مستوى ليباشر حالة محمد، ويجرى له جراحة عاجلة، إلا أن المفاجأة، جاءت كمشاهد فيلم سينمائى، فوجئ الطبيب العميد المعتز رشاد، الذى يقود الفريق الطبى، أن المصاب الذى جاء بحالة حرجة بعد إصابته فى سيناء، هو ابنه محمد، ليحاول جاهدا إسعافه مع زملائه من الفريق، إلا أن القدر قرر أن يلفظ محمد أنفاسه الأخيرة بين يدى والده، ليكتب عند الله من المقاتلين المجاهدين الأبطال.