يا ابني حرام عليك.. أنت كل يوم عامل لي أنا ووالدك الغلبان مشكلة؟!! خاف ربنا فينا يا حبيبي... إحنا لا في ديلها ولا في قرنها.. افتكر الحكمة دي كويس؛ وحطها حلقة في ودنك وما تقلعهاش منها أبدا... الناس مقامات يا ضنايا أنت ها تجيب ابن البواب لابن البيه؟!! آسفين خالص يا سعادة الباشا، آسفين جدا يا سعادة الناظر، ابني طيب والله ومش بتاع مشاغبات ولا مشكلات، أنا هاربيه في البيت تمام؛ ومش ممكن يعمل كده تاني في يوم من الأيام... يا الله قدامي يا مقصوف الرقبة... هكذا تحدثت أم محمود زوجة قبيصي البواب لناظر مدرسة ابنها سطوحي الملواني، بعد أن جاءت على عجل، إثر إرسال المدرسة في طلبها على وجه السرعة بعد "خناقة " حامية الوطيس دارت بين ابنها محمود قبيصي وتامر شوكت نجل المستشار شوكت الأرناؤوطي الذي استفزه بسخريته منه ومن ملابسه وساندويتشات الفول والطعمية التي تصنعها له والدته يوميا من بقايا الخبز البلدي التي تفيض بالكاد من إفطار إخوته السبعة، ويحملها دائما في حقيبته المرقعة في كيس بلاستيكي حائل اللون، "إحنا لا في ديلها ولا في قرنها" كانت الجملة الأثيرة بل الحكمة العتيدة التي صاغت كامل حياة محمود قبيصي بعد تلك الحادثة الفارقة، فبعد أن شب محمود قبيصي عن الطوق، وكبر مع الأيام أخذ يفكر مرات عديدة في مغزى تلك الحكمة أو الكابوس الذي أصبح ملازما لأنفاسه ليل نهار، مرات كثيرة... جعلته يصر ساخرا أن تخبره والدته عن معنى هذه الحكمة العجيبة متسائلا: ماشي يا أمه... أنا طول عمري كنت مطاوعك إنت وأبويا الله يرحمه، لكن إيه معنى الكلمة اللي أنت دايما تقوليها لي ده إحنا لا في ديلها ولا في قرنها. أم محمود بحيرة كبيرة: والله يا ابني أنا طول عمري كنت باسمعهم يقولوا لي الكلمة دي من ساعة ما كنا في البلد لحد ما أبوك الله يرحمه ماجابنا في الأوضة اللي أدوها له تحت سلم العمارة عشان يحرسها واتربيتوا فيها كلكم؛ وعمري ما فكرت إن أسألهم معناها إيه، بس نقول إيه بقى العلام ما شاء الله نضفك ونورك وخلى مخك شغال، وبتسأل في كل حاجة مش زي إخواتك اللي ما بيفكوش الخط وشغالين أرزقية على فيض الكريم؛ بس هم أكّدوا على أياميها إني طول ما أنا حاطاها في مخي عمر ما حاجة عفشة هاتجرى لي، عشان كده تلاقيني طول عمري أقولها لك إنت وإخواتك وأتبت عليها... محمود قبيصي بضيق بالغ: يعني هم يقولوا لك.. وحنا اللي ندفع التمن؟!!، ربيتونا إنت وأبويا الله يرحمه على الذل والخنوع، والرضا بأقل القليل والتنازل عن حقنا، والخوف من كل حاجة لحد ما إخواتي بقوا أرزقية عايشين يوم بيومه هم ومراتاتهم وعيالهم اللي برضه هايطلعوا زييهم ضايعين، وأنا الوحيد اللي خدت شهادة وبدل ما أفيدكم وأفيد نفسي؛ قاعد عواطلي ع القهوة وأنت وإخواتي بتساعدوني بعد ما حفيت رجلي ورا القوى العاملة، وأصحاب الشركات ببكالوريوس التجارة اللي البلد كلها شايلاه وخريجينه أكتر م الهم ع القلب، لكن أنا مش هاستسلم تاني، ومش هافضل مكاني وعمري ما أفضل لا في ديلها ولا في قرنها؛ أنا لازم أكون حاجة مهمة جدا يتعمل لها ألف حساب؛ إنت فاهمة... لازم.. يهجر محمود غرفة والديه التي تربى طيلة عمره فيها، ويغيب عنها لعدة أشهر لا يعرف فيها أحد شيئا عنه؛ إلى أن يظهر في قفص محكمة الجنايات متهما بعدة جرائم نصب وسرقات متعددة وشيكات دون رصيد، يتوارى خجلا من والدته وإخوته وأبنائهم الذين حضروا جميعا ليساندوه في أزمته، غير مصدقين لتهمة واحدة من التي وصم بها أخوهم الكبير، لكن سخرية القدر لم تشأ أن تترك محمود قبيصي في مصائبه، دون أن تلقنه درس عمره الذي ظل يستذكره طيلة حياته دون أن يحفظه؛ فقد كان القاضي الذي حكم عليه بعشر سنوات هو نفسه زميله القديم المضروب تامر الأرناؤوطي، ليسقط مغشيا عليه بعد سماع الحكم بعد صرخة والدته التي شيعته بها قائلة: مش قلت لك يا ابني إحنا لا في ديلها ولا في قرنها؟!!