"ليس من يسمع مثل من يرى".. الحديث عن الأموات يحمل تفاصيل عدة، حكايات كثيرة، تختلط فيها الحقيقة بالخيال، البعض لا يحب الدخول في الأمر من البداية، وآخرون يكتفون بتلاوة وترديد الأساطير التي تتناقلها الألسن حول "حكايات الموتى"، غير أن من تدفعه ظروفه المعيشية، وواجبات وظيفته، للبقاء وسط الجثث لسنوات طويلة، بالقطع يمتلك –دون غيره- الحقيقة الكاملة عن البشر الذين يعبرون من البوابة الأخيرة للدنيا، إلى العالم الآخر. "أشرف".. أقدم عامل داخل مشرحة مستشفى قنا، والذي يستقبل يوميًا العشرات من الجثث ما بين قتيل ومحروق وغريق وطلقات نارية وحوادث متفرقة. وعن بداية رحلته داخل المشرحة، قال: عملت في البداية داخل المستشفى لمدة عامين، انتقلت بعدها للعمل داخل المشرحة، لتمر 22 سنة وأنا في المكان هنا، ولا أخفى عليكم سرًا أننى في البداية ترددت في قبول العمل داخل المشرحة، لكننى حفاظًا على "أكل عيشى" قبلت الوظيفة، مع الأخذ في الاعتبار أن تواجدى داخل المستشفى أزال عنى رهبة رؤية الجثث، فقد كنا نستقبل حالات كثيرة لأموات أو مصابين، وهذا الأمر ساعدنى كثيرا في تخطى حالة الرهبة التي تكون في البداية، واستطعت التأقلم مع الأمر. وعن تفاصيل عمله، قال: استقبل الجثة عقب وصولها المستشفى في سيارة الإسعاف، وأبدأ في تجهيزها على "ترولى" خاص بالتشريح وأنتظر قدوم الطبيب الشرعى ليبدأ مهمة تشريحها. وأكمل: من أصعب الحوادث التي استقبلتها جثث ضحايا العبارة سالم إكسبريس، فقد وصل وقتها عدد الضحايا إلى ما يقرب من 20 جثة، وكانت بينهم أشلاء وبقايا أعضاء، ولا تزال أسماؤهم موجودة على ثلاجات المشرحة حتى اليوم، من بين الضحايا كان أطفال وسيدات وكان منظرهم صعبا جدًا، كما أن الجثث ظلت فترة طويلة بالمشرحة، لحين انتهاء الإجراءات ودفنهم في مقابر جماعية بالمحافظة. "الوقاية خير من العلاج".. شعار يرفعه دائما عامل مشرحة مستشفى قنا العام، تحسبًا لإصابته بالمرض أو الفيروس نتيجة التعامل المباشر مع الجثث، خاصة أن الجثث قد يكون بينها مصاب بأى مرض، من الممكن أن ينتقل إليه أثناء تعامله مع الجثة وتجهيزها. وكشف "أشرف" أنهم يعانون أزمة في الأجور، حيث قال: أتقاضى أجرا يصل إلى 1600 جنيه، ولا يوجد بدل عدوى يصرف لنا، رغم أننا في مقدمة الذين يمكن أن يتعرضوا للعدوى داخل المستشفى، بسبب تعاملنا مع الجثث مباشرة، وأطالب بتنظيم دورات تدريبية للتوعية بمخاطر التعامل مع الجثث، خاصة أننا نتعامل على مدار ال24 مع جثث مجهولة الهوية، المذبوحة والمقتولة والمحروقة والمشنوقة. وأشار إلى أنه يظل طوال الليل بجوار المشرحة، للاطمئنان على الجثث خوفًا من انقطاع التيار الكهربائي، أو قدوم أي شخص من ذوى المتوفي، موضحا أن المبيت بجوار الجثث رحمة، وأنه لم يخش يوما المبيت بجوار الجثث، مؤكدًا أنه يظل ليالى كثيرة بجوار الجثث ويدخل ويخرج عليها طوال الليل دون الخوف منها نهائيا، "هؤلاء أصبحوا في ذمة الله.. ولم يعد منهم أي إيذاء.. بل المبيت بجوارهم رحمة". وعن أصعب المواقف التي قابلها خلال سنوات عمله الطويلة داخل المشرحة، قال: جاءت جثة شاب توفى في حادث سير بسيارة والده، وعند حضور والده بمفرده طلب أن يؤدى صلاة العشاء، وبعدها طلب إلقاء نظرة الوداع عليه، وكان يمتلك قدرا كبيرا من الإيمان،لدرجة أنه عند إلقاء نظرة الوداع على ابنه قبل جبينه، وقال له: "مش قولتلك ياولدى متطلعش بالعربية"، وطلب أن يسامحه، لأنه كان السبب في موته، بسبب إعطائه مفاتيح السيارة والخروج بها، "بصراحة حسدته على الموقف ودرجة تحمله". وكشف أيضا أن أبناءه لا يعلمون أي شئ عن طبيعة عمله بالمستشفي، وأنهم يعرفون أنه يعمل بالمستشفى فقط، لكنهم لا يعرفون بأمر عمله في المشرحة، مشيرا إلى أنه عند العودة إلى المنزل يحتاج إلى يومين حتى يتمكن من العيش مع أسرته بشكل طبيعى. وأوضح أيضا أن جثث الأطفال، من الجثث الصعبة التي يتعامل معها، حيث يضطر إلى حملها بين يديه، ومن بين جثث الأطفال التي تعامل معها كانت جثة طفل سقط في بئر منذ سنوات حملة جده ووالده على أيديهما وسلماه له، وكانت من أصعب المواقف حيث إنهما لم يشاهداه عند وقوعه في البئر، وعند البحث عنه وجداه في البئر في حالة يرثى لها وتسلمته منهم وتم دفنه في نفس اليوم.