بعد هبوطه في 7 بنوك.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري الأربعاء 28-5-2025    الإيجار القديم.. نقيب الأطباء: فسخ العقود بعد 5 سنوات كارثة.. وزيادة إيجار الوحدات المهنية 10% كافية    الدبيبة تعليقا على عزم البرلمان اختيار حكومة جديدة: لا شرعية لمراحل انتقالية جديدة    مستقبل رونالدو بين حلم العودة و«مزاملة» ميسي.. والأهلي لمواصلة الرحلة    عضو مجلس أمناء جامعة MSA: أحمد الدجوي قبل وساطتي للصلح وتمنى إنهاء الخلافات    موعد نتيجة الصف السادس الابتدائي 2025 في بني سويف بالاسم ورقم الجلوس    5 مصابين في إطلاق نار داخل مركز تسوق بولاية أمريكية    بعد انفجارين متتاليين.. صاروخ ستارشيب العملاق يخرج عن السيطرة    أسعار الذهب اليوم بعد الهبوط الكبير وعيار 21 يصل أدنى مستوياته خلال أسبوع    مواعيد مباريات اليوم والقنوات الناقلة| مواجهتي الأهلي وبيراميدز في ليلة حسم الدوري    موعد وصول أليو ديانج إلى القاهرة للانضمام إلى الأهلي    أسعار الفراخ وكرتونة البيض في أسواق وبورصة الشرقية الأربعاء 28 مايو 2025    فيديو| حكاية روب التخرج للعم جمال.. تريند يخطف الأنظار في قنا    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الأربعاء 28-5-2025    منع ابنه من الغش.. ولي أمر يعتدي على معلم داخل مدرسة بالفيوم    رئيس وزراء العراق: فضلنا أن نكون جسرًا للحوار لا ساحة تصفية حسابات    قمة الإعلام وقاع البيات الفكري    صندوق النقد الدولي: مصر تحرز تقدما نحو استقرار الاقتصاد الكلي    المطبخ المركزي العالمي: إسرائيل لم توفر مسارا آمنا لوصول الإمدادات لنا    أبطال فيلم "ريستارت" يحتفلون بعرضه في السعودية، شاهد ماذا فعل تامر حسني    موعد أذان الفجر اليوم الأربعاء أول أيام ذي الحجة 1446 هجريًا    موعد أذان الفجر في مصر اليوم الأربعاء 28 مايو 2025    وجبة كفتة السبب.. تفاصيل إصابة 4 سيدات بتسمم غذائي بالعمرانية    كواليس حريق مخزن فراشة بكرداسة    غموض موقف أحمد الجفالي من نهائي الكأس أمام بيراميدز    «أنا أفضل في هذه النقطة».. عبد المنصف يكشف الفارق بينه وبين الحضري    موعد مباراة تشيلسي وريال بيتيس في نهائي دوري المؤتمر الأوروبي    أحمد الكاس: نحاول الوصول إلى أبعد نقطة ممكنة في كأس العالم للشباب    مصطفى الفقي: كنت أشعر بعبء كبير مع خطابات عيد العمال    إدارة الأزمات ب «الجبهة»: التحديات التي تواجه الدولة تتطلب حلولاً مبتكرة    ظافر العابدين يتحدث عن تعاونه مع طارق العريان وعمرو يوسف للمرة الثانية بعد 17 سنة (فيديو)    رئيس جامعة عين شمس: «الأهلية الجديدة» تستهدف تخريج كوادر مؤهلة بمواصفات دولية    العيد الكبير 2025 .. «الإفتاء» توضح ما يستحب للمضحّي بعد النحر    ما حكم صلاة الجمعة إذا وافقت يوم عيد؟ الإفتاء تحسم الجدل    مدرب مالي: ديانج يمكنه الانضمام ل الأهلي عقب مواجهة الكونغو    السيطرة على حريق شب داخل مطعم بمنطقة مصر الجديدة    إصابة 8 بينهم رضيعان أشخاص في انقلاب سيارة ميكروباص ببني سويف    حقيقة ظهور صور ل«روبورت المرور» في شوارع مصر    ولاء صلاح الدين: "المرأة تقود" خطوة جادة نحو تمكين المرأة في المحافظات    سلاف فواخرجي تعلن مشاركة فيلم «سلمى» في مهرجان روتردام للفيلم العربي    هناك من يحاول إعاقة تقدمك المهني.. برج العقرب اليوم 28 مايو    بعد شائعة وفاته... جورج وسوف يحيي حفلاً في السويد ويطمئن جمهوره: محبتكم بقلبي    إعلام عبري: 1200 ضابط يطالبون بوقف الحرب السياسية بغزة    البلشي يدعو النواب الصحفيين لجلسة نقاشية في إطار حملة تعديل المادة (12) من قانون تنظيم الصحافة والإعلام    محافظ البنك المركزي يترأس وفد مصر في الاجتماعات السنوية لمجموعة بنك التنمية الإفريقي    وزير الأوقاف يهنئ الشعب المصري والأمة العربية بحلول شهر ذي الحجة    وكيل صحة سوهاج يبحث تزويد مستشفى طهطا العام بجهاز رنين مغناطيسى جديد    «الرعاية الصحية»: التشغيل الرسمي للتأمين الشامل بأسوان في يوليو 2025    تنتهي بفقدان البصر.. علامات تحذيرية من مرض خطير يصيب العين    الاحتراق النفسي.. مؤشرات أن شغلك يستنزفك نفسيًا وصحيًا    لا علاج لها.. ما مرض ال «Popcorn Lung» وما علاقته بال «Vape»    حدث بالفن | وفاة والدة مخرج وتامر عاشور يخضع لعملية جراحية وبيان من زينة    حزب الجبهة الوطنية بجنوب سيناء يبحث خطة العمل بأمانة التعليم (صور)    جورجينيو يعلن رحيله عن أرسنال عبر رسالة "إنستجرام"    بن جفير يتهم سياسيًا إسرائيليًا بالخيانة لقوله إن قتل الأطفال أصبح هواية لجنود الاحتلال    سلمى الشماع: تكريمي كان "مظاهرة حب" و"زووم" له مكانه خاصة بالنسبة لي    الشركة المتحدة تفوز بجائزة أفضل شركة إنتاج بحفل جوائز قمة الإبداع    السعودية تعلن غدا أول أيام شهر ذي الحجة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار| فني تشريح ب«زينهم»: لست جزارًا.. وزوجتي الوحيدة التي تعرف مهنتي
نشر في التحرير يوم 05 - 11 - 2015

نأكل ونشرب وننام بجوار الموتى.. والخوف ليس له مكان عندي.. الأطفال نقطة ضعفي وعشقت المهنة وأصبحت جزءً من حياتي
"بمجرد أن تقترب منها وتطأ قدميك الأرض حتى تشعر بانقباض شديد، فالجميع في حالة سكون وصمت تام، وأصوات الأقدام يسمعها من بالداخل، والكل يرقد في عالمه منعزلا عما يحدث في الخارج".. هنا مشرحة زينهم، ذلك المكان الضيق، الذى لا تتحمل سعته سوى استقبال 120جثمانًا فقط ولا توجد به سوى غرفتين فقط لإجراء عملية التشريح للجثامين، بات شاهدًا على عدة عصور مختلفة في تاريخ مصر، ولكن حياة من وراء هذا العالم ومن يعيشون أطول لحظات حياتهم بداخله تحوي الكثير من الأسرار والجوانب الخفية.
"التحرير" التقت بأحد العاملين داخل مشرحة زينهم، وتحدثت معه عن طبيعة عمله كفني لتشريح الجثث، لتزيح الستار قليلًا عن الغموض الذي يحيط بالحياة داخل المشرحة، وتلمس الوجه الآخر من حياة العاملين بداخلها، ومدى تأثير عملهم بالمشرحة على نمط حياتهم وعلاقاتهم بأسرهم بأقاربهم وأصدقائهم وجيرانهم.
"لست جزارًا.. أنا إنسان طبيعي زي كل الناس.. عايش مع الحقيقة الوحيدة في حياتي وهي الموت.. مش بحب نظرة الناس بالخوف أو الإشمئزاز مني".. وكأن محمد السيد "فنى التشريح"، البالغ من العمر أربعة وثلاثون عامًا وخريج المعهد الفني التجاري، وقف ليدافع عن نفسه في ساحة محكمة، ليبرئ نفسه من كافة النظرات التي يصوبها كثيرون له، وكأنه إنسان يعيش في عالم آخر مع الأموات، لذلك حاول محمد أن ينفض التراب من عليه، ليؤكد أن من يعملون بهذه المهنة يملكون مشاعر إنسانية ويتأثرون مثل باقي الأشخاص الآخرين، ولكنهم لا يستيطعون أن يصارحوا أقرب الناس إليهم بطبيعة عملهم خوفًا من أن ينفروا منهم أو يشعرون برهبة تجاههم.
لحظات تشريح الجثمان
حاولنا أن نتعرف أكثر على طبيعة عمل "فني التشريح"، فسألناه عن مراحل وإجراءات الجثث منذ لحظة دخولها من باب المشرحة حتى وضعها فى ثلاجات الحفظ، فأجاب محمد: "هناك 6 فنيين فقط يعملون بالمشرحة، ولكل طبيب شرعي فني تشريح مساعد له، يقوم بإمداده بالأدوات اللازمة أثناء بداية التشريح، ويساعده أيضا في تشريح الجثة ويعاون الطبيب في كل مهامه ولا يكون في الحجرة سوى الطبيب الشرعي وفنى التشريح والجثة فقط، وتكمن مهمة الطبيب في تشريح الجثة ومعاينتها وكتابة التقرير الطبي واستخدام عينيه في معرفة أسباب الوفاة".
ويتابع محمد: "تنتهى مهمة الفنى بمجرد انتهاء تشريح الجثة، بينما يقوم الطبيب بكتابة تقرير الصفة التشريحية ومتابعة مذكرة النيابة وأوراق علاج المجني عليه وإحراز المضبوطات واستكمال باقي الأعمال".
واستكمل: "هناك فترتين عمل بالمشرحة، الأولى تبدأ في تمام الساعة الثامنة صباحًا وتستمر حتى الساعة الخامسة ليلًا، ثم يأتى (النوبتجي) ليواصل العمل إلى اليوم التالي حتى الثامنة صباحا وهكذا تستمر دورة العمل، وهناك أمرين هامين في طبيعة هذه العملية، الأول إذا جاءت الجثة بعد الساعة الخامسة ليلا، تبدأ مهمة (النوبتجي) في إستلام الجثمان بشرط أن يكون مرفق معه قرار نيابة، ثم يقيد اسم القتيل ويتم كتابة رقم المحضر وتاريخ الاستلام والملابس التي يرتديها المجني عليه واسم النوبتجي نفسه ورقم الثلاجة وهوية الشخص الذى أحضره بحيث يدون كل البيانات فى دفتر التشريح، وبمجرد تدوين البيانات فى الدفتر يتم إستلام الجثمان ووضعه داخل ثلاجة الحفظ مدون عليها كارت تعارف ويتم حفظها حتى يأتى اليوم التالى لتنفيذ قرار النيابة المرفق إما بالتشريح ثم تسليمها للدفن أو الحفظ بالثلاجة إذا كانت مجهولة الهوية حتى تمر فترة زمنية وإذا لم يتم التعارف عليها يتم دفنها فى مدافن الصدقة بموجب قرار من النيابة ولكن إذا تم التعرف عليه تحصل الأهلية على جواب تعارف من النيابة وتستلم الجثمان من خلاله أما إذا جاء الجثمان فى تمام الساعة الثامنة صباحا ومرفق معها قرار من النيابة بالتشريح، يتم إجراء هذا العملية بتدوين كافة الإجراءات فى دفتر التشريح، وإذا كان القرار ينص على تشريحها تبدأ عملية التشريح على الفور أو حفظها إذا جاء القرار بذلك".
وأكد محمد أنه "بمجرد إنتهاء إجراءات تسلم الجثمان واستلام قرار نيابة سواء بالتشريح أو الحفظ، وأخذ البصمة من مندوب النيابة، ثم يتم وضع رقم لها وكارت تعارف حتى يتم التعرف عليها من قبل الأهلية".
محمد يستكمل، تبدأ عملية التشريح، عقب خروج الجثمان من ثلاجة الحفظ، حيث يتم وضعه على "ترول" ثم الذهاب به إلى ال"ترابيزة" الموجودة فى صالة التشريح، ويتم وضعه على جهاز أشعة فى حالة الوفاة بطلق نارى لمعرفة إذا كان المقذوف النارى مستقر أم لا، ولكن إذا كانت الإصابة بطعن سكين فلا يستلزم وضعه على جهاز أشعة، وأقوم بمساعدة الطبيب أثناء هذا الفترة بإمدادة بأدوات التشريح كالمشرط والمقص والإبرة، وكأنك تجرى جراحة ولكن ليس لشخص حى ولكن لشخص ميت، ورغم نقص الإمكانيات الموجودة لدينا لكن المسئولين بالمصلحة وعلى رأسهم مدير عام دار التشريح الدكتور هشام عبد الحميد، يحاول حل هذه الأزمة التى تواجههنا بتوفير الإمكانيات بقدر المستطاع، وبعد الإنتهاء من التشريح، إذا كان قرار النيابة يشمل الدفن يتم إجراء"غسل" للجثة ثم تسليمها للأهلية لدفنها، إما إذا كان القرار بالتحفظ يتم وضعها فى الثلاجات.
وفى محاولة للتعبير عن ضيقة ذكر محمد، أننا نعانى فى المصلحة من نقص الإمكانيات والأدوات، ومرتبى شهريا يصل لنحو 1500 جنيها وهى تجعلنى أعيش "مستورا"، بينما بدلات التشريح ضعيفة للغاية ونتمنى زيادتها لكونها لا تناسب مع حجم التعب والأعمال العديدة التى نقوم بها ومدى الإرهاق خاصة فى أوقات الأزمات والأحداث الكبرى التى يموت فيها ضحايا كثيرين مثل أخداث فض إعتصامى رابعة والنهضة أو حادث بورسعيد، والمشرحة عبارة عن حجرتين فقط وبداخل كل حجرة ترابيزتين فقط، وسعة المشرحة لا تتحمل تقريبا أكثر من 120 جثة
قصة أول جثة "شرحتها" في حياتي
وحين سألته عن حكايته مع أول جثة فى حياته وشعوره فى تلك اللحظة، صمت محمد قليلا ووجه رأسه للأعلى محاولا التذكر، ثم قال أول جثة شوفتها فى حياتى وبدأت أتعامل معاها، كان يوم الإمتحان للتقدم للوظيفة بعد قراءة إعلان الوظيفة وكان يوم صعب فى حياتى، وكان الإختبار يتلخص فى معرفة مدى قدرتى على التحمل وقوة قلبى فى تشريح الجثث ومساعدة الطبيب، فكان هناك عدد من المتقدمين للوظيفة، وحينما كانوا ينادون على الأسماء كان العاملين بالمصلحة، يلبسوننا"جوانتى" لمعرفة مدى قدرتنا على التحمل ولرؤية هل سنكون قادرين على تشريح جثة قتيل سواء أكان رجل أو مرأة أو طفل صغير
ثم استطرد فى الحديث،"إحساسى فى اللحظة ده كان طبيعى جدا لأن طول عمرى قلبى جامد، وأنا عارف أن الموضوع ليه رهبة ولكنى شعرت بإنقباض فى أول مرة، ولكن إتعودت بعد كدة، المهنة ده بتعامل معاها زى أى مهنة، هى محتاجة قوة قلب بس"واللى أنا مندهش منه لحد دلوقتى وأكثر شئ إستغربت ليه، إنى حبيت المهنة ده فعلا وأصبحت جزء كبير من حياتى ومش عارف أنا حبتها ليه وإيه اللى جابنى هنا، كل اللى أعرفه إنى مبقتش قادر أستغنى عنها فى حياتى، يمكن علشان حسيت أنها بتقدر تجيب حق الشخص اللى مات وحق الراجل أو السيدة المقبوض عليهم وتقدر بترئ المظلوم وتدين الظالم.
محمد تابع فى حديثة، أنا لست جزارا ولكننى لدى قدرة كبيرة فى التحكم فى أعصابى، وأنا شخصيا رأيت الكثير من الأفلام والفيديوهات عن التشريح بدول الخارج وتابعت ما يقوم به الأطباء وفنيى التشريح فتأكدت أن مصر هى الدولة الوحيدة التى يتعامل فيها الأطباء الشرعيين برفق ورحمة مع المتوفى وليس كأنه "أله حديدية"
لا أحد يعلم "سر" وظيفتى سوى زوجتي.. وأولادي لايعرفون شيئًا
كان سؤال "سيد" حول عالمه الأخر وهو منزله وأسرته وأصدقائه وأقاربه بمجرد إنتهاء عمله بالمشرحة وخروجه من عالم الأموات إلى عالم الأحياء ، هو السؤال الأصعب له، فهنا توقف كثيرا قبل الإجابة، ثم عاد للحديث بعد أن شرب بعض الماء، ليقول "لا أحد يعلم وظيفتى، سوى زوجتى، وأخفى هذا الأمر على جميع أصدقائى وزملائى بإستثناء المقربين للغاية منى فقط ومن يعرفوننى جيدا، حتى أقاربى ليس جميعهم يعلم وظيفتى، حتى أقرب الناس لى أطفالى وهم طفلتين صغيرتين الأولى عمرها لا يتجاوز ال3 سنوات والأخرى تبلغ من العمر 8 سنوات، لايعلمون شيئا نهائيا عن وظيفتى، وأخشى ان أقول لهم ذلك، نظرا لصغر سنهم وحتى لايخافون منى ولكى يتعاملون معى بشكل طبيعى دون رهبة أو فزع، ولكى أكثر ما يقلق زوجتى بسبب وظيفتى هى الأمراض والعدوى خوفا على حياتى من الجثث التى أتعامل معها بشكل يومى
وإستكمل محمد، ولادى ميعرفوش حاجة عن وظيفتى، ولكن كل ما يعلموه عن وظيفتى أننى أعمل بالنيابة العامة، وأنا منتظر حين يكبرون أن أصارحهم بالحقيقة ولن أخفى عملى عليهم حينها
محمد يضيف، أحيانا أفكر حينما تكبر إحدى فتياتى ويتقدم لها عريس ويعلم مهنة والدها ماذا سيكون موقفه؟، يصمت سيد قليلا ليضيف، "قلت فى نفسى لو حاببها عادى واللى مش عاجبه براحته وده وظيفتى ومش هغيرها علشان حد"
وأعتقد أن أفضل ما فعلته هذه المهنى بشخصيتى أنها جعلتنى أهدأ بكثير ولا أتعصب ولا أدخل فى مشادات مع احد خشيه على حياتى وحياته عكس ما كنت عليه قبل دخولى هذه المهنة، وأصبحت أكثر تأثرا بالمواقف، وتضاعفت قوة قلبى وتحملى بشكل كبير، وأكثر شئ إكتشفته مؤخرا أننى أصبحت لا أتأثر حين أسمع عن حالة وفاة بالعائلة والأقارب والأصدقاء، بل أصبحت هادئا صابرا ومؤمنا أقرب إلى الله، لأن النهاية واحدة عندنا كلنا، وحياتنا فى الأخر إما ثلاجة داخل مشرحة او قبر داخل تربة، وأنا إشتغلت فى كل الوظائف قبل أن أدخل مهنة التشريح ولكن لاتوجد مهنة تقرب إلى الله مثل هذه المهنة.
سيد يكمل، أعشق اللون الأسود فى كافة ملابسى، ولكن حينما أكون فى منزلى إحاول أن أبتعد نهائيا عن هذا الألوان لأعزل نفسى نهائيا عنها، لذلك فألوان المنزل مبهجة عكس الألوان التى أفضلها، وقد يكون للمهنة دور فى ذلك، ولكن أكثر شئ تعلمته هو أننى بمجرد أن أخرج من باب المشرحة أعزل نفسى تماما وأدخل عالم أخر يوجد فيه أسرتى وأطقالى وألعب معهم ونخرج سويا حتى لا أظهر أن هناك شيئا ما يؤرقنى فى عملى وأتعامل مثلى كمثل أى إنسان طبيعى.
الأكل والشرب والنوم العميق مع الأموات
وحين حاولنا،أن نقترب منه كثيرا لنلمس حياته داخل المشرحة، ولنتعرف على يومه كيفية يقضية؟، وكيف ينام ويأكل ويشرب بجوار ثلاجات الموتى؟، فقال محمد ضاحكا وهو يحرك يديه، حياتنا طبيعية جدا وبناكل وبنشرب زى كل الناس ومفيش حاجة بتتغير، أنا بشتغل داخل المشرحة وباكل وبشرب جنب ثلاجات الموتى، لأن ده طبيعة مهنتى وشغلى ووظيفتى، اللى مينفعش أغيرها وخلاص إتعودت عليها، وحينما يكون لدى سهرة "نوبتجى" داخل المشرحة، بنام نوم عميق جدا وبحس كأنى فى بيتى، خاصة وأن أيام السهرة لدى عبارة عن سهرة متواصلة لمدة 48 ساعة ونحصل على أجازة بعدها لمدة 3 أيام، ومش بخاف من الوساوس وحكايات العفاريت والشياطين، لأنى مؤمن بالله وقلبى جامد، وخلاص "إحنا جسمنا إتذفر"، يمكن فى البداية كنت بخاف شوية وأشعر أن هناك أشياء خفية تحدث أثناء نومى ولكن إتعودت بعد كده على النوم جنب الأموات.
توقف محمد قليلا ثم إستكمل كلماته، إتعودت أنا وزملائى الفنيين على رائحة الأموات الكريهة وبقينا نشمها زى الهوا الطبيعى ومنظر الدم السايل، وزى ما بنشتغل حالات فيها "دود" بنشتغل حالات أخرى جسمها نظيف، وإحنا إتعودنا على كل شئ، وأنا عارف إنى المهنة ده صعبة ومش أى حد يوافق عليها بس ده قدرنا وإحنا راضيين بيه وخلاص بقت المهنة ده فى دمنا.
وبنظرات غاضبة وحركات أيدى مرتبكة ذكر سيد، أكثر شئ يضايقنى فى هذه المهنة ويجعلنى أغضب بشكل كبير ولا أسيطر على نفسى حينها، هو رؤية البعض إليك، أو الإشمئزاز منك أو الخوف منك والفزع حين رؤيتك، كل تلك الأمور تجعلنى فى حالة هيستيرية أشعر حينها أننى شخص "مقرف" وغير مرغوب فيه، وهو ما يجعل الحزن يسيطر على فى كثير من الأوقات وأكثر إكتئابا فى بعض اللحظات، ومن الأشياء التى تثيرنى غضبا أيضا أن يعاملنى الأهالى أو أسر الضحايا بأننى عامل ولست فنى تشريح أعاون الطبيب فى أعماله وأساعده فى تشريح الجثمان.
اللحظة التي نسيت فيها وظيفتي وكنت سأبكي حينها
وحين واجهته بسؤال عن أول مرة بكى فيها خلال فترة عمله بالمشرحة ومتى كانت أول لحظة تأثر فيها رغم مشاهد الموت التى إعتاد عليها يوميا وصرخات البكاء والحزن والدموع من أهالى المتوفين الذى يتوافدون على المشرحة..أوقفنى محمد مقاطعا سؤالى قائلا، "لم أبكى لحظة فى حياتى، لأنى شخص دمعتى عزيزة عليا شوية، بس أنا زى كل الناس بتأثر داخليا وعندى مشاعر وإحساس"، مستطردا كلامة "ولكن الموقف الذى لم أستطع أن أتمالك أعصابى معه وشعرت حينها أننى سأبكى ودموعى ستنزل بالفعل،كان يوم وفاة شهداء ألتراس أهلاوى فى واقعة إستاد بورسعيد، لأنى حسيت أنهم شباب إتاخدوا غدر وماتوا وهما بيشجعوا فريقهم، ومشهد الأطفال والشباب وهو جاى فى صناديق، يجعل أى إنسان مهما كان قلبه وقوة تحمله، يضعف ويشعر بلحظات يكاد يسقط فيها، وبمجرد أول دموع شفتها من أهلية الضحايا حسيت أنى سأبكى معهم عليهم ولكنى تمالكت أعصابى قبل أن أبكى، لأنى متهيألى إنى محدش يقدر يشوف أم بتبكى على ولادها ويكون قلبه جامد"
"نقطة الضعف"التى لا أتمالك فيها نفسى أثناء التشريح
وبنبرة حزن عميقة وبصوت ملئ بالتأثر قال سيد إبن الثلاثينات من عمره، مهنة فنى التشريح تجعلك إنسانا حقيقيا لأنك تشعر بنواحى إنسانية قد لا تجدها فى مهن أخرى عديدة، متابعا: يمكن أكثر حاجة بتجعلنى أضعف وأتاثر بشدة أثناء تشريح طفل صغير سواء أكان له أهل أو لقيط، لأنك بتحس فى اللحظة ده إن إبنك أو بنتك هى اللى مكانه وتحس "قلبك بيتقطع"
وصمت سيد لثوانى معدودة ثم إستكمل، أتذكر أن من أكثر المواقف التى تعجبت منها، هو أحد زملائى فى التشريح ويعمل "مغسل" – يتبع حانوتى وليس موظفا بالمشرحة – طويل البنيان ومفتول العضلات وقوى النبية والجسد، حين يرى أطفالا لايستطيع التعامل معهم ولايتحمل أن يقوم بغلسهم أو حملهم، بل ويسقط بجوار الجثمان ويبكى بدموع غزيرة وكأنه طفل صغير، رغم أنه جسديا "كالوحش" ولكن حينما يرى طفلا يتحول إلى كائن "ضعيف" للغاية لا يتحمل.
وبكلمات لاتخلو من السخرية والتهكم تابع محمد قائلا، البعض يشعر أن فنى التشريح، إنسان بارد بلا إحساس وليس لديه قلب، وهذا كلام غير حقيقى، لأن فنى التشريح زيه زى أى شخص يشعر ويحس ولديه قلب ولديه إحساس ولكن مهنته هى من تتطبع عليه ويصعب ان يخرج منها بسهولة، فالحياة مع عالم الأموات تختلف كليا عن الحياة مع الأحياء، ويمكن الحقيقة الوحيدة اللى أنا عايشها معاها هى الموت.
ثم رفع رأسة مرة أخرى وكأنه يتذكر موقف ما،وقال"كان هناك طبيبا بجامعة عين شمس وكان لديه جثة لأحد الأطفال من أقاربه،وجاء وهو يصرخ فى وجهى،لو كان لديك طفل قتيل، هل كنت ستقوم بتشريحه، فقلت له بكل صراحة "لا"، كنت سأدفنه على الفور، وكنت صادقا معه حينها"
أحد أقاربي جثة هامدة بين يدي
سيد تنهد قليلا ثم إستكمل حديثة، من المشاهد التى لاتفارق عينى واللحظات التى لم انساها أيضا طوال فترة عملى بالتشريح، هو قيامى بتشريح جثة أحد أقاربى وهى حدثت لأول مرة لى طوال عملى بالمشرحة على مدار عامين كاملين، وكان قد توفى أثناء فض إعتصام ميدان نهضة مصر، وحاولت أن أخفى حينها حزنى عليه بفقدانه، وقمت بتشريحه مع الطبيب الشرعى مثله كمثل أى جثمان وتمالكت أعصابى، والشئ الذى يخفى على كثيرين أن الجثث جميعها أثناء التشريح سواء ويتم معاملتهم بنفس الأمر ولانفرق بين جثمان إرهابى أو قتيل عجوز أو إمرأة أو طفل، ولكن نقوم بتشريحهم بغض النظر عن أسمائهم وألقابهم، لأنهم جميعا سيلاقون ربهم
حياتنا مهددة بالخطر
وحين سألناه عن أكثر شئ يخاف منه فنى التشريح، قال سيد وبلا تردد، لا نخاف من شئ ولكن أكثر ما يزعجنا هو عدم التأمين، خاصة وأن هناك بلطحية قد يكونوا تابعين لاحد المتوفين، وأحيانا كثيرون يقومون بالعديد من المشاكل لرفضهم التشريح، وهو ما قد يهدد حياتنا بالخطر
.وقبل أن يكمل: توقف لحظات ثم تابع: أنا فاكر لما روحنا بورسعيد عقب الحكم مباشرة لتشريح ضحايا بورسعيد، إتشتمنا وإحنا رايحين حينما علموا أننا من مصلحة الطب الشرعى بمصر، وكان ذلك فى عز إحتدام الأوقات وذروة الأحداث فى مصر، وسبونا وقالوا علينا "إنتم يهود"
محمد يضيف، أحداث فض إعتصامى رابعة العدوية ونهضة مصر، كانت أصعب أيام فى حياتنا، فالجثث كانت تملأ المصلحة بالكامل لدرجة أنها كانت تملأ سلالم المشرحة، بسبب الأعداد الرهبية وإستمرينا فى مهام التشريح لمدة 4 أيام متواصلة، حتى إنتهينا منهم، وتعاملنا معهم مثل باقى الجثث، فنحن ننفذ قرارات النيابة فقط ولا نقوم بتمييز الجثث حسب إنتماءاتها، والتقرير النهائى هو الفيصل بين النيابة والأهلية، وكذلك الأمر بالنسبة لقتلى ألتراس بورسعيد، حيث كانت الأعداد كبيرة للغاية وهو ما كان يستلزم مننا مجهودا إضافيا من اجل تشريح كل الجثامين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.