«إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا».. متى 16:24-28، هكذا قال المسيح لتلاميذه قبل عشرين قرنًا من الزمان يدعوهم للثبات على الإيمان وتحدي الصعاب. تلك الآية التي تلطخت حروفها بدماء أحد الشهداء بتفجير كاتدرائية مارجرجس بطنطا، يبدو أنها كانت آخر الكلمات ينطقها قبل أن تنطلق روحه للسماء.
وسط أشلاء وجثامين تطاير أطرافها وأحشاؤها إثر التفجير الآثم الذي حصد نحو 27 شهيدًا وعشرات الجرحى، وقلوب يعتصرها الألم ووجوه شاحبة تبددت فرحتهم بأعياد القيامة المجيدة، وتناثرت بسمة الأطفال على حطام التفجير وأجزاء لحم ًًبرئ خلفه الإرهاب.
حزن وكآبة ونواح وصراخ يعلوّ للسماء على فراق ذويهم، ولم يمضِِ قليل ليضرب الإرهاب بيد الخسة تفجيرًا آخرًا بالإسكندرية، ويحصد من الأبرياء عددًا ليس قليلًا.
لم تصمت السماء على صراخ الأمهات الثكالى والآباء منفطري القلوب على فلذات أكبادهم الذين راحوا لصلاة أحد السعف ليروا دماءهم على جريد النخيل، أرسلت السماء تعزياتها بآيات ذكرها المسيح عليه السلام قبل قرون من الزمان.
إذا بالآية الملطخة بدماء شهداء تقول أيضًا" فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يَأْتِي فِي مَجْدِ أَبِيهِ مَعَ مَلاَئِكَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ، اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ ههُنَا قَوْمًا لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوُا ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا فِي مَلَكُوتِهِ»، لتكون بلسمًا ربانيًا يطيب جراح أهالي الشهداء وثبات لأسر الجرحى بأن الله يجازي كل واحد حسب أعماله، فإن الموت جسر ليذهب هؤلاء للسماوات متحملين الآلام. ووسط ركام وبارود الإرهاب وأشلاء ودماء نثُرت على حوائط وجدران الكنائس والملابس البيضاء التي يرتديها الكهنة والشمامسة لتصبغ بالدماء، تحولت صورة الكنيسة وموضع الصلاة إلى ما يشبه المجزر الآلي الذي طال الكبير والصغير.
وطالت مخالب الإرهاب قلب راعي كنيسة مارجرجس القمص دانيال ماهر، الذي حمل فلذة كبده «بيشوي» الطالب الجامعي الذي كان يصلي جوار أبيه صلاة أحد الشعانين ليحمله جثة هامدة وسط صدمة عارمة.. رحل الشهداء وهم يرددون «خلصنا يا ملك إسرائيل». وقال كيرلس عوض - أحد طاقم الشمامسة والمصاب إثر التفجير بكنيسة مارجرجس بطنطا:" القنبلة انفجرت ونحن نقول أوصانا يابن داود " وهى جملة قبطية تعني خلصنا. وأضاف:« لم يكتب لي حظ الاستشهاد مع زملائي في أحد الفرح - الشعانين، ونصلي لمرتكبي الحادث إنما نصلي ليفتح الله قلوب.. هدفنا أن يزرع الحب في القلوب".
وفي الإسكندرية كانت فاجعة أخرى حال تفجير انتحاري حزام ناسف على أبواب الكنيسة المرقسية الكبرى أثناء صلوات البابا تواضروس، وكان أول شهدائها حارسها الأمين نسيم فهيم الذي تصدى للإرهابي بعد محاولة مروره دون تفتيش. ملامح الحزن والأسى تغلبت على البابا تواضروس الثاني بعدما سمع انفجار المرقسية وعلم خبر كارثة طنطا.. أزال ملابس الفرح البيضاء التي يرتديها حال القداسات بالأعياد ليبدأ صلوات الجناز العام معلنًا دخول الكنيسة أسبوع الآلام.
وقال الأنبا بنيامين، مطران المنوفية وتوابعها للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، إن اهتمام الدولة المصرية واتخاذ قرارات حاسمة؛ لردع الإرهاب، يعكس إدراك المسئولين بخطورة الإرهاب وأعماله، وعزم الدولة على محاربته. وأضاف مطران المنوفية، في تصريح خاص ل«فيتو»:" أن رسالتي على حادثي طنطا والمرقسية هى (محدش بيموت بالصدفة، فإن الله يختار نفوس أمينة؛ لتنال الاستشهاد، وتصرخ دماؤها للسماء)". وتابع: «أن الإنسان على الأرض يستثمر وقته ومجهوده وأمواله وأفكاره، أما موت الشهداء فهو خير استثمار للموت؛ ليكون له أجر"؛ مؤكدًا أن الأقباط لا يرهبهم الموت، ولذا تزايدت أعداد الوافدين للكنائس، بعد معرفتهم بوقوع الحادث». وعن الجانب التأميني ودور الكشافة، قال الأنبا بنيامين، إن الدولة لم تقصر، ولعل إقالة مسئولي الأمن، يعكس عدم محاباة الدولة لأحد على حساب الحق. وأشار إلى أن دور الكشافة بالكنيسة، يكون معاونة رجال الشرطة في تنظيم دخول الوافدين، أما الجانب الأمني، فله رجاله. ووصف مطران المنوفية استهداف الكنيسة المرقسية بالإسكندرية، حال صلاة البابا قداس الشعانين، أنها تهدف لزعزعة الوضع في مصر بصورة عامة، وقال:"من قاموا بالأعمال الإرهابية يهدفون غرس الفتنة بين المصريين، وهم وأعمالهم لا يعبرون عن الإسلام". ولم تكن ضربات الإرهاب الأولى لقلب مصر وأقباطها فسبق وطال الإرهاب الكنيسة البطرسية ونالت من الأطفال والنساء.