حانات صغيرة وطرقات ضيقة تقطعها ممرات، ما أن تدخل شوارعها فتلمس فيها التراث الأصيل برائحة الماضي العريق والبن المطحون وزيوت العطارين كأنك تتذكر عصورا مضت وحرفا كانت تملأ الدنيا رواجًا قبل أن تدهسها التكنولوجيا، مهن من "روايح الزمن الجميل" تدافع عن ما تبقى من آثارها باستماتة. تقع "القيسارية" على بعد أمتار من محطة السكة الحديد بقلب مدينة أسيوط، تحتضن مهن الأجداد فما بين دق النحاسين وصناع الألومنيوم ورائحة المعادن وروائح مطاحن البن وأبخرة المساجد ومسك العطارين فتكون مزيجا من النسائم الرائعة ليسعد زائريها بالمنطقة العريقة مع التسوق بالأسعار المخفضة. والقيسارية من أقدم وأكبر الأسواق بصعيد مصر وأرخصها كملجأ للفقراء؛ حيث ينتشر بها تجار الجملة والصناعات والحرف القديمة مثل صناعة النحاس والألومنيوم والمفاتيح وأخشاب الأثاث ومحال الخردوات والأقمشة والصناعات اليدوية والفخارية والعطارة والدباغة، لتنافس أكبر المحال والمولات التجارية. ويعود تاريخ المنطقة إلى العصر العثماني وبها مناطق أثرية، أبرزها وكالات ثابت وشلبي ولطفي والتي اشتهرت قديما بأنها من أكبر الوكالات التجارية في مصر والوطن العربي ولعبت دورا هاما في الاقتصاد وكانت نقطة تجارة في ذلك الحين كحلقة وصل بين شمال مصر والجنوب وممر بداية لدرب الأربعين الذي يصل إلى إقليمي دارفور وكردفان بأسوان ومنه للسودان، وتضم المنطقة العديد من الآثار الإسلامية منها جامع سيدي جلال الدين السيوطي ومسجد المجاهدين. وتضم القيسارية 3 وكالات تجارية هي وكالة شلبي ولطفي وثابت، وتعود إلى العصر العثماني، وشيدت على الطراز المعماري العثماني بحيث يتوسطها فناء كبير به نافذة للإضاءة والتهوية وتتكون كل واحدة من طابقين الأسفل منه معد لمبيت الدواب وتخزين البضائع والطابق العلوي معد للمعيشة وإقامة للتجار القادمين من مدن بعيدة، وكانت تلك الوكالات رابطا هاما بالإضافة لمسجد جلال الدين السيوطي ومسجد المجاهدين. كثير من المهن تحاول الحفاظ على نفسها من خلال صانعيها ولكن مهنة النحاسة تراجعت كثيرا بعد ارتفاع سعر النحاس والاعتماد على مواد أخرى في المطابخ إلا أن الحج صابر علي 64 سنة أقدم النحاسين بالمحافظة ما زال يجلس بمنتصف زقاق بالسوق الكبيرة يمارس مهنته. أما صناعة المفاتيح والتي لم يتبق منها سوى وكالة واحدة.. فعلى بعد خطوات قليلة من مدخل العتبة الزرقاء بجوار السوق تجد الصانع يحتضن حرفته المتوارثة منذ الأجداد، يخشى عليها الاندثار، ويجلس محمد قناوي البسطي يمارس مهنته ويصنع المفاتيح ويستخرج نسخا منها مقابل جنيهات قليلة تساعده في العيش الطيب برفقة أولاده بجانب تصليح الكوالين. القيسارية وتجهيز العرائس تنتشر بالسوق الكبيرة محال تجهيز العرائس؛ حيث تتعدد محال بيع أواني وأدوات المطبخ ومحال الأقمشة والمفروشات والسجاجيد كما تحوي السوق مراكز لبيع الأجهزة الكهربائية وأخرى لبيع الملابس والأحذية وحتى أدوات تجميل حتى صارت كمنطقة العتبة والموسكي بالقاهرة. وفي هذا السياق يقول محمود طلعت صاحب محل خردوات "إن القيسارية رغم قدمها إلا أنها سوق تجارية كبيرة وبأسعار مخفضة؛ حيث إن أغلب التجار بها يقومون بتوزيع السلع بأسعار الجملة". لم تقتصر السوق على المحال التجارية وأنما يوجد بها سوق للخضار وسوق للجزارات ومحال بيع الطيور، ويقول عمرو زيدان صاحب أقدم محل جزارة في القيسارية: "إن السوق حتى في اللحوم أرخص من الجزارات بالمدينة لذلك يأتي إليها أعداد كبيرة جدا من المواطنين للشراء وتتنوع اللحوم فيجد الجميع ما يريدون". وعن أبرز مشكلات السوق قال رجب القاضي صاحب محل العطارة: "إن المنطقة بالكامل تقع غرب البلد وتتسم بانخفاض أرضها لذلك عادة ما تغرق في مياه الصرف الصحي التي تصل أحيانا للمحال وتغرق السلع وتدخل حتى للمساجد كما أن ضيق الشوارع مع التعدي على حرم الطريق بالسلع جعلها شديدة الزحام وكثيرة المشاجرات.