أحاطت الشريعة الإسلامية الأنساب ببالغ الرعاية والعناية، وجعلت المحافظة على النسب من مقاصدها، وشرعت الأحكام المتعلقة بهذا الموضوع من حيث تشريع الزواج وإثبات النسب وتحريم الزنا وغير ذلك، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل تحليل "DNA"، لمعرفة نسب الأبناء يصطدم مع القاعدة الفقهية الشهيرة والتي يحتج بها كثير من العلماء وهى: "الولد للفراش"؟ الدكتور أحمد كريمة، أستاذ الفقه المقارن والشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، قال إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال "أنتم أدرى بشئون دنياكم"، ومن القواعد الفقهية ذات الصلة: "حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله"، موضحًا أن قاعدة العرف دليل من أدلة التشريع الإسلامى وأصله قول الصحابى الجليل عبدالله بن مسعود رضى الله عنه: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن"، على ضوء ذلك فإن التحليل الحمضى المعروف بالDNA من حيث الأصل لا مانع منه ويجوز استخدامه في الأعمال الجنائية ودعاوى النسب. وتابع في حديثه ل "فيتو" أن جعل ال DNA من الأمور الشائعة وتوثيقه في البطاقة مرفوض شكلا وموضوعًا لأنه سيكون له تداعيات خطيرة على الأسر، ولا بد من عمل ورش عمل لمناقشة القضية من جهة أطراف عديدة. وأردف أنه قد ينجم عنه مشكلات كثيرة، وينبغى أن تتم المسألة في أضيق الحدود بمعنى يجوز للدولة أن تدشن قاعدة بيانات سرية وخاصة تتبع وزارة العدل مثلا أو الداخلية أو المخابرات العامة وما شابه ذلك تفاديًا لتداعيات سلبية كأمور النسب. من جانبه يقول «الدكتور أحمد مصطفى معوض - مدرس مساعد بقسم الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون جامعة القاهرة»: إن النسب في الشريعة الإسلامية يثبت بالفراش الصحيح وهو الزواج الصحيح وما يلحق به من المخالطة بناءً على عقد فاسد أو شبهة، موضحًا أن العقد يكون باطلًا إذا تخلف أحد أركانه الأساسية كالشروط المتطلبة في العاقدين أو المعقود عليها أو في الصيغة، لافتًا إلى أنه إذا تخلفت إحدى تلك الشروط كان العقد باطلًا ولا يتم العقد ولا يولد أثرًا. وأشار إلى أن العقد الفاسد هو عقد الزواج المكتمل لأركان انعقاده ولكن تخلف عنه شرط من شروط صحته كأن لم يحضر العقد شاهدان تتوفر فيهما شروط الشهادة، أو كانت صيغة العقد غير مؤبدة، مؤكدًا أن النسب يثبت في حالتى عقد الزواج الصحيح والفاسد أيضًا. الدكتور معوض أضاف أن الله تعالى قال: «ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِى الدِّينِ» سورة الأحزاب الآية (5)، مؤكدًا أن الإسلام تمسك بأهمية انتساب الأبناء إلى آبائهم وحرم التبني، موضحًا أن عبد الله بن عمر قال إن زيد بن حارثة رضى الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن «ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّه». وذكر «معوض» أن النسب لا يثبت بالزنى؛ لأن الزنا كان منهيًا عنه كما أن الزواج بزانية منهى عنه شرعًا، فقال الله تعالى «الزَّانِى لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» سورة النور آية 3. وأكد «معوض» أن الذي يثبت النسب هو توافر الفراش الصحيح، لافتًا إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»، مشيرًا إلى أن كل زوجة تأتى بولد من زواج صحيح لا يجوز أن يتبرأ منه زوجها. وأضاف أن الإسلام حدد حالات النسب حصرًا وهى الزواج أو الزواج الفاسد أو الوطء «الجماع» بشبهة، مؤكدًا أن أي ولد نشأ عن علاقة بين رجل أو امرأة في غير تلك الحالات لا يثبت به نسب، منوهًا إلى أن الشريعة الإسلامية ذكرت حالة اللعان في حالة اتهام الزوج زوجته بالزنى، فقال الله تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ». وعن تحليل البصمة الوراثية «D N A» أوضح أنه يشبه علم القيافة قديمًا، مؤكدًا أن القيافة تعتمد على الشبه الظاهر في الأعضاء كالأرجل وفيها قدر من الظن الغالب، أما البصمة الوراثية فهى تعتمد اعتمادًا كليًا على بنية الخلية الجسمية الخفية. وأضاف أنه لا يجوز التوسع في استخدام البصمة الوراثية، وإنما استخدامها كقرينة على صحة النسب، مشيرًا إلى أنه يشترط لها توافر الفراش الصحيح سواء بعقد صحيح أو فاسد، وأن تكون بعد اللعان بين الزوجين، وذلك كقرينة على نسب الولد لأبيه، وذلك لما فيه من مصلحة وخير للصغير، وأن تكون كذلك لإثبات النسب لا لنفيه. وشدد على أنه في حالة شك الزوج في زوجته واتهامه لها بالزنى يتم اللعان والتفريق بينهما ونفى نسب الولد للزوج، وبعد الوصول لهذه المرحلة يجوز اللجوء لتحليل البصمة الوراثية حفاظًا على مصلحة الطفل لأنه قد تكون واقعة الزنا حدثت بالفعل، لكن نسب الولد لأبيه صحيح كأن يكون الزنا تم بعد الحمل أو بعد وضع الأم جنينها. وأشار إلى أهمية اقتصار تحليل البصمة الوراثية على توافر الفراش سواء بعقد زواج صحيح أو عقد فاسد أو شبهة، ولا يجوز استخدامها في حالات الزنا لأن ولد الزنا لا يُنسب للزاني، مؤكدًا أن ماء الزنا هدر ولا يثبت به نسب، وحتى لا يؤدى ذلك إلى اختلاط الأنساب في حالات زنى المحارم وتحليل زيجات محرمة وتحريم زيجات حلال. وأضاف أن التقدم العلمى لا يلغى القواعد الفقهية ومنها قاعدة «الولد للفراش»، مشيرًا إلى أن تحليل البصمة الوراثية عمل بشرى يحتمل الخطأ والنسيان، كما أنه من الوارد أن يتم بعد مدة من الزمن اكتشاف أن هذه التحاليل غير دقيقة أو بها خطأ ما. المدرس المساعد بقسم الفقه المقارن بكلية الشريعة أكد أنه يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في حالات الاشتباه في المواليد بالمستشفيات ومراكز رعاية الأطفال ونحوها، وكذلك الاشتباه في أطفال الأنابيب، وينطبق الأمر ذاته على حالات ضياع الأطفال واختلاطهم، بسبب الحوادث أو الكوارث أو الحروب، وتعذر معرفة أهلهم، أو وجود جثث لم يتم التمكن التعرف على هويتها، أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحروب والمفقودين. وأشار إلى أنه يجب أن يتوافر في البصمة الوراثية أن تكون هناك تقنية عالية في إجراء التحاليل الخاصة، وأن يكون هناك قبول خاص بها من أهل الاختصاص، فلا يقبل الأخذ بالكشف العلمى في مرحلة التجريب، إنما يشترط العمل بها بعد أن تصل لمرحلة الثبوت والتطبيق، مشددًا على ضرورة أن يكون العاملون والقائمون على أخذ الفحوص والتحاليل الخاصة بالبصمة الوراثية أهل ثقة، وأمانة.