العمل في الفضائيات لم يعد يشرف صاحبه تتلمذت على يد سيد قطب في «دار العلوم» لم يشأ فاروق شوشة أن يودع الدنيا قبل أن يقول كلمته التي حملت نقدًا واعتراضًا على موقف كثير من المثقفين الذين ملأوا الساحة ضجيجًا وحملوا المباخر، وأطلقوا حناجرهم وأقلامهم لصالح من يدفع، وشنوا هجومهم ضد كل من اختلف رأيه أو أبدى اعتراضه على ولي نعمهم. في حواراته الأخيرة على مدى العامين الآخرين -قبل أن يغادرنا في الجمعة 14 أكتوبر وقد تجاوز الثمانين من عمره الثري- لاحظ كل متابع لأحاديثه وحواراته مدى حزنه على أحوال المثقفين مقارنة بالزمن الجميل الذي عاشه شابًا في عصر ذهبي وليّ.. في أحد حواراته قال: أزمة الثقافة المصرية ليست وليدة اللحظة، بل تمتد لعقود طويلة، بدأت إبان ثورة 23 يوليو منذ أن أصبح المثقفون طائفتين: طائفة من السهل شراؤها عن طريق المناصب والمكافآت والجوائز، وطائفة أخرى تفتقد إمكانية أن يكون لها وجود وسط المجتمع والنخبة المثقفة، مما أحدث شرخًا بين المثقفين للدرجة التي دفعت البعض إلى الهجرة خارج مصر، والبقاء في دول عربية أو أجنبية لعدم القدرة على التعايش وسط المجتمع وهناك من يموت كمدًا داخل بيته، وهناك من يئسوا من الثقافة وانقسم المثقفون إلى فريقين: الأول مستفيد وانتهازي والآخر يائس ومطارد. وفي حوار آخر يقول: لم يسلم المثقفون أنفسهم مما يوصف به الإنسان المتهالك المتطلع، المستعد أن يبيع أي شيء من أجل أن يغنم منصبًا أو وظيفة أو وضعا أو شهرة أو جائزة أو دورًا، وتحت هذه العناوين رضخ كثير منهم للواقع الذي كان موجودًا ولا يزال، وظنوا أنهم جماعة الشطار لأنهم يحققون الغنائم، أما غيرهم من العازفين أو المحبطين أو الصامتين أو العاكفين في بيوتهم خارج بلادهم.. هؤلاء هم الأغبياء، الذين لم يحسنوا لغة العصر، ولم يستفيدوا من عطايا السلطان. ويقول شوشة عن القنوات الفضائية: العمل في الفضائيات لم يعد يشرف صاحبه، فقد عملت القنوات الفضائية في مجموعها على إلغاء الوعي العربي كأنها تنفذ مؤامرة ضد العقل العربي، وكل الذين يعملون فيها يعملون دون دراسة أو تدريب حقيقي لطبيعة العمل الإعلامي الصحيح كما يحدث في العالم بداية من البرامج السخيفة التي تتحدث عن الجن والشعوذة وحتى برامج الخطابة الزاعقة المؤيدة تأييدًا أعمى أو التي تقدم معارضة عمياء وأنا أرى أن الفساد في هذه القنوات يكمن في أنها تعبر عن مصالح أصحابها من رجال المال والأعمال وهو الفساد المطلق. مع سيد قطب في «دار العلوم» وفي أحد حواراته مع مفيد فوزي «برنامج مفاتيح» قال فاروق شوشة: في عام 1952 كنت من ضمن الدفعة الأولى التي التحقت بكلية دار العلوم التي تم قبولها من خارج طلاب الأزهر وجيء بسيد قطب ليعلمنا علوم القرآن، فدرس لنا مادة «في ظلال القرآن».. وكان سيد قطب وقتها معروفًا كناقد وشاعر وقد كان أول من كتب عن نجيب محفوظ ويحيي حقي في العالم.. وعرفت بعد ذلك بسنوات أنه أكمل محاضراته التي بدأها معنا وجمعها في سنوات سجنه في كتاب «في ظلال القرآن». عن ثورة 23 يوليو وعن تقييمه ثورة 23 يوليو ما لها وما عليها صرح شوشة في حوار له بجريدة «المصري اليوم»، نشر في السبت 11/ 6 / 2016 قبل وفاته بنحو أربعة أشهر، بقوله: ثورة 1952 أصبحت نقطة خيبة لجيلنا بنكسة 1967.. وجيلي عاش الحلم وعاش أيضا انكسار الحلم وهو ما ملأنا بسلبيات ومرارات ما زال أثر بعضها موجودًا حتى اليوم.. انكسار الحلم القومي كان معناه أن مصر لم تعد مصر التي نعرفها، وأنها خرجت من التاريخ، لا جدال أن ثورة 1952 فتحت أمام جيلنا التعليم المجاني فتعلمنا ودخلنا الجامعات ولكن كانت لها سلبيات لأنها ارتبطت في كثير من الأحيان بمشاريع قومية، كالسد العالي وخروج الإنجليز من مصر، وفي مقابل هذا كانت هناك مصادرة للحريات وسجون مكدسة بالمعتقلين على كثرة معتقداتهم، من شيوعيين وإخوان وبالتالي بناء الإنسان لم يكن هدفًا لهذه الثورة، ولو كانت اهتمت بالتعليم وبناء الإنسان لما كنا بحاجة إلى ثورة 25 يناير؛ لأن هذا الإنسان لم يكن ليصمت على الفساد. خدم.. خدم وعبرت قصيدة «خدم.. خدم» للأستاذ فاروق شوشة عن أوضاع الثقافة والمثقفين طوال العقود الماضية في رأيه، وقال إن الوضع يتردى عامًا بعد آخر، وهاجم في هذه القصيدة «المطبلين» والمتهافتين المستعدين أن يبيعوا أي شيء من أجل مصلحتهم الخاصة ودون نظر إلى مصلحة الوطن.