بصوته الرخيم الشجي,كانت كلماته الهادئة تصلنا عبر الإذاعة المصرية,بنبرة عربية فصحي لا تخطئها أذن أنا البحر في أحشائه الدر كامن.. فهل سألوا الغواص عن صدفاته. نعم بهذه الكلمات الهادئة عبر الإذاعة المصرية, سمع المصريون والعرب من الشاعر فاروق شوشة, الذي رحل أول أمس الجمعة, عن عمر يناهز ثمانين عاما, أعذب الأصوات التي نطقت باللغة العربية الفصحي,وحببتها لملايين المستمعين. ولد الشاعر فاروق شوشة في قرية تحمل اسم قرية الشعراء بدمياط; ليخرج منها إنسان وشاعر يحمل هم واقعه في صدره. تري هل ولد الشعر بداخله أم أن قرية الشعراء زرعته فيه منذ الصغر. سؤال لن نعرف إجابة عنه سوي أنه صار فاروق شوشة. ومن قرية الشعراء خرج إلي الدنيا يصدح بحبه للغة, يجعل همها نصب عينيه, تراه حينا فارسا يقف محاربا في صفوف للغة وتارة أخري تجده يقود الجيوش. وإلي قرية الشعراء يعود بعد80 عاما وكأنه قد أكمل مسيرته الشعرية وشعر بالاكتفاء. وهذا ما صرح به صديقه الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة, الذي قال إن شوشة كان يردد طوال الوقت: هاجس الموت يعيش داخلي. وكأنه كان ينتظر موعده. عمل شوشة أستاذا للأدب العربي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة, وقدم العديد من الأعمال عن اللغة العربية لغتنا الجميلة ومشكلات المعاصرة ومواد حلقات برنامجه الإذاعي لغتنا الجميلة في خمسة مجلدات, ومعجم أعلام الثقافة العربية مجمع اللغة العربية. فاروق شوشة... الإنسان النبيل ومواقف لا تنسي د.محمد داود رحل الشاعر النبيل فاروق شوشة وترك لنا زادا مشرقا ليس من الشعر والأدب والنقد فحسب; بل ترك لنا مواقف مشرقة وذكريات جميلة تجعله خالدا في أعماقنا.... لقد آثرت أن يكون رثائي لهذه العبقرية من جانب مهم يتصل بحياة الجميع, من يهتم بالشعر ومن لا يهتم بالشعر, إنه جانب يظهر نبل الإنسان فاروق شوشة, وذلك من خلال ذكرياتي معه خلال فترة وجودي خبيرا بمجمع اللغة العربية. البداية كانت عندما أهديته تحقيقي لديوان مدائح المختار للصرصري. هذه الشخصية الفذة صاحبة الموقف الخالد أمام التتار; حيث قاتلهم بشعره وعكازه... ودار حوار سريع عن شخصية الصرصري الشعرية, وأهم الملامح المميزة له, حيث نال تحقيقي لهذا الكتاب جائزة مجمع اللغة العربية في تحقيق التراث عام2004 م. ومرت الأعوام وأنتجت كتابا اشتجر حوله الخلاف في الصحافة بين مؤيد ومعارض,وهو كتاب: اللغة وكرة القدم.. ونال مني البعض بالقول الشديد, ورد علي هؤلاء في عجالة العلامة المرحوم أستاذنا الدكتور تمام حسان... وإذ بالشاعر النبيل الإنسان الأستاذ فاروق شوشة يفاجئني بمقالين متتاليين في جريدة الأهرام عن كتاب اللغة وكرة القدم وفكرته, وأنه يضيف زاوية جديدة في علم اللغة الاجتماعي. وأثني علي مؤلف الكتاب ثناء بالغا( سألحق المقالين في نهاية هذا المقال). ومرت أعوام قليلة وكنت قد أنتجت قبلها بأعوام كتاب( استدراك ما فات المعجم الوسيط)... وحدث أيضا لوم داخل المجمع أن أقدم ذلك للطباعة وأنا داخل المجمع, لم لم أقدم هذه الاستدراكات للمجمع مباشرة؟! وكانت اللفتة الإيجابية الكريمة من العلمين... العلامة أستاذ الأجيال أ.د/شوقي ضيف, والإنسان النبيل الشاعر المبدع/ فاروق شوشة من وراء إعادة تشكيل لجنة تحديث المعجم الوسيط, وجعلوني ضمن هذه اللجنة.. ثم كان الشاعر النبيل فاروق شوشة رئيسا لهذه اللجنة, وأشهد أني أفدت من جمال أسلوبه, وأني كنت مدينا للعلامة اللغوي أستاذ الأجيال الدكتور كمال بشر;حيث تعلمت منه الدقة والإحكام في الأسلوب فلا يكون فيه حشو, بل يصل إلي درجة من الترابط أنك يتعذر عليك حذف كلمة من المقالة, بل من العبارة الواحدة, فإنني في المقابل تعلمت الحس الفني الجمالي من الأستاذ فاروق شوشة. ومرت أعوام قليلة وأنتجت معجم الفروق الدلالية في القرآن الكريم, وأهديته نسخة, وكان في نهاية الإهداء.. أملا في ملاحظاتكم لم أكن أحسب أنه يقرأ الإهداء ويحول ما به إلي واقع, فقرأ وأشاد وأثني ونصح وأرشد.. وهو صاحب فكرة توسيع المعجم ليكون موسوعيا في مادته ونحن نعمل فيها الآن برفقة جمع من العلماء... يفصح عن تفاصيله في حينه. كان رحمه الله نافذة مشرقة بالجود والكرم, والنبل للآخرين, لم يكن لنفسه فقط. فاروق شوشة الشاعر.. الناقد الأديب.. ينافسه فاروق شوشة الإنسان النبيل وداعا فاروق شوشة... تبقي جميلا مشرقا فينا. شاعر الحب كم يبقي طعم الفرحة في شفتينا!. عمرا؟. هل يكفي!.. دهرا مسكوبا من عمرينا.. فليهدأ ناقوس الزمن الداوي في صدرينا.. وللتوقف هذي اللحظة في عمقينا.. هذه الكلمات من قصيدة لحظة لقاء التي انتبه من خلالها عاشقو الشعر العربي. إلي فاروق شوشة, كشاعر رومانسية, لحلاوة كلماته, ولعذوبة أشعاره, ولرواق معانيها. ثائر علي الأوضاع انتقد شوشة في قصيدة الخدم المثقفين, وتحدث عن تردي أوضاعهم. وقد كتبت هذه القصيدة نتيجة تأمل طويل في أوضاع الثقافة والمثقفين طيلة20 عاما, حيث يقول كان إحساسي الدائم أن الوضع يتردي عاما بعد آخر, ولفت نظري أمر طريف, هو أن رؤساء المؤسسات الثقافية علي مدار20 عاما هم من يكتبون عن الفساد في الثقافة والمؤسسات الثقافية, كأنهم لم يكونوا رؤساء هذه المؤسسات يوما, فكتبت القصيدة لأقول لهم أنتم صناع هذا الفساد, وعباقرة هذا التردي. وأنتم من ألغيتم القيم الصحيحة والنبيلة, وجعلتم من المؤسسات مجرد كيانات لا تقدم ولا تؤخر شيئا, ثم تأتون لتقولوا إن الثقافة كان ينقصها كذا وكذا, أين كانت ضمائركم وعقولكم. الأمر الثاني الذي تحدث عنه شوشه أن المثقفين أنفسهم لم يسلموا مما يوصف به الإنسان المتهالك, المتطلع, المستعد, أن يبيع أي شيء من أجل أن يغنم منصبا أو وظيفة أو وضعا أو شهرة أو جائزة أو دورا, وتحت هذه العناوين رضخ كثير منهم للواقع الذي كان موجودا ولا يزال. وظنوا أنهم جماعة الشطار, لأنهم يحققون الغنائم, أما غيرهم من العازفين أو المحبطين أو الصامتين أو العاكفين في بيوتهم أو المهاجرين خارج بلادهم, هؤلاء هم الأغبياء الذين لم يحسنوا لغة العصر, ولم يستفيدوا من عطايا السلطان, ولم يقتربوا من النفوذ أو يحصلوا علي منصب, ولم تتردد أسماؤهم بمناسبة أو غير مناسبة, ولم تظهر صورهم في الصحف والقنوات. أما عن مشواره مع الإعلام فرغم أنه لم يكن يخطط له من قبل; فقد كان ينتظر بعثة دراسية للعمل بعدها في الجامعة, ثم جاءت مصادفة العمل الإعلامي لينشغل به من خلال تقديم برامج ثقافية وأدبية وشعرية, الأمر الذي أغنانه عن الكتابة, وأصبح لديه ما يسمي بالاكتفاء الوهمي. وعندما اكتشف هذا الواقع كان رد الفعل متمثلا في الاقتراب الأكثر من ساحة الشعر والوعي بأنه السيد الوحيد الذي ينبغي أن يكون الولاء له دون أن يشاركه أحد,. مسيرة وجوائز وعقب حصوله علي جائزة النيل للأدب, قال شوشة, إن مستقبل الشعر العربي مرهون بالشعراء القادمين, والنبوءات لا تصلح في هذا المجال, قد يجيء شاعر كبير يغير الخريطة الشعرية, والقول بأننا سنكتشف كام شاعر هذا يدخل في باب النبوءة, الشعراء الجدد سيكونون أبناء التعليم الجيد, والمناخ العام الذي يسمح بتصورات جديدة وخيال جديد واتصال بالشعر في العالم. حصل شوشة علي جائزة الدولة في الشعر عام1986, وجائزة محمد حسن الفقي عام1994, وعلي جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام1997, وجائزة كفافيس العالمية عام1991, وآخر ما حصل عليه هو جائزة النيل عام.2016 وقال شوشة عن جائزة النيل هي أكبر جائزة في مصر , إنها من الطبيعي أن تكون وساما علي صدر أي إنسان يفوز بها, خصوصا بعد فترة عمل امتدت لأكثر من نصف قرن في مجال الأدب والشعر والثقافة, وبعد جهد ومعاناة, ومحاولة الاستمرار بصور وأشكال شتي. والتجريب في مجالات كثيرة.