من ملفات الصاعقة المصرية في حرب أكتوبر مشينا 180 كيلو مترا نحمل اثنين من زملائنا المصابين واجهتنا هجومًا ضاريا بمنطقة جبل عتاقة من طائرات العدو حصلنا على المياه من طيار إسرائيلى سقطت طائرته ومات واحد من رجال مصر الأبطال الذين قال الله فيهم: «رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر»، حفظته عناية الله -وحدها- من ويلات الحرب، ليتمكن من تنفيذ مهمة من أخطر ما يكون، شاهد خلالها الكثير من الأهوال التي تقشعر الأجساد لها، وعاش ليروى للأجيال الشابة بطولات أجدادهم فتُخلد ذكراهم في الأرض، كما خٌلدت أرواحهم في الجنة. اللواء نبيل أبو النجا.. أحد أبطال الصاعقة المصرية بحرب أكتوبر، ومؤسس المجموعة 999 وقائد واحدة من أخطر العمليات الإستراتيجية التي تمت خلف خطوط العدو، وترتب على نجاحها عبور الأسلحة الثقيلة والمتفجرات خط بارليف. التقت «فيتو» البطل اللواء «نبيل أبو النجا» الحاصل على نوط الشجاعة من الدرجة الأولى قائد الفرقة 143 صاعقة والتي أسند لها مهمة توصيل المتفجرات والدانات داخل صفوف العدو حدثنا عن تفاصيل عملية "رحلة جهنم" – كما سماها - وما تخللها من إخفاقات موت، ودمار، شاهد خلالها زملاءه تنصهر أجسادهم وعظامهم من نيران الدانات فتحولهم في ثوان معدودة إلى رماد، ليظل المشهد محفورا بذاكرته على مدى 43 عاما، يطل عليه صبيحة كل يوم مع أذان الفجر، ولا يستطع الزمن محوه من ذاكرته، كما لم يستطع هو أن يجد للنصر بديلا فبإصرار لا حدود له وعزيمة لا تلين وقبلهما تأييد من الله عز وجل، سطرت أول سطور النصر في معركة أكتوبر المجيدة عن طريق "قافلة الجمال الانتحارية" لتتوالى بعد ذلك الانتصارات، ويكتب الله، عز وجل، لجنودنا النصر بحروف من نور.. لنبحر معه في رحلته إلى جهنم ونعيش معه كل أحاسيس مقاتل شجاع وضع روحه على كفيه ليحرر تراب الوطن الذي بذل من أجله كل غال ونفيس.. وإلى أهم ما رواه لنا البطل اللواء "نبيل أبو النجا"... ساعة الصفر دقت الساعة الثانية وخمس دقائق ظهر يوم 6 أكتوبر، فانطلقت 232 طائرة حربية مصرية بشكل متتابع تصاحبها طلقات 2200 مدفع متنوع يصبون جام غضبهم على الضفة الشرقية ويدكون المواقع الحساسة للعدو ومراكز القيادة وبطاريات الصورايخ، ويقطعون طرق الإمدادات لتأمين عبور المشاه من قناة السويس. نجاح الضربة الجوية، كفل للجنود عبور القناة وصنع فتحات بخراطيم المياه في الساتر الترابى خلال 6 ساعات فقط، ولكن هذا لا يكفل النصر في ظل عبور المشاة بأسلحة خفيفة، تواجه في العمق دبابات ومدفعية وطائرات العدو، وبات صنع كبارى تربط ضفتى القناة لعبور الأسلحة الثقيلة أمرا شبه مستحيل في ظل الهجمات المتكررة للعدو، من هنا كان للصاعقة دور فارق في نتيجة الحرب بأكملها. بدء الرحلة صدرت إليّ الأوامر، أنا والنقيب نبيل أبو النجا رئيس استطلاع المجموعة 145 صاعقة، آنذاك، بتنفيذ عملية خلف خطوط العدو، تهدف إلى تعطيل تقدم لواء مدرع للعدو بمنطقة خط المضايق والممرات التي تواجه الجيش الثالث المرابط في المنطقة بين فايد إلى السويس، وذلك من 6 إلى 8 ساعات لحين الانتهاء من عبور الأسلحة الثقيلة إلى الضفة الشرقية للقناة. في الساعة الرابعة وعشر دقائق عصر يوم 6 أكتوبر، انطلق أفراد الكتيبة 143 صاعقة ب 18 طائرة هليكوبتر في مجموعتين، محلقين على مسافة قريبة من الأرض حتى لا يلتقط تحركاتهم رادار العدو، ومع آخر ضوء وصلنا إلى منطقة "صدر الحيطان" خلف العدو، وتعاهدنا أن يكون مرور اللواء مدرع للعدو على جثثنا. المحاولة الأولى نزلت مجموعتى التي كانت تتكون من 6 طائرات هليكوبتر بمنطقة جبل عتاقة، وفوجئنا بهجوم ضار من طائرات العدو الحربية أدى إلى تحطم طائراتنا على الأرض، ورغم جحيم النيران الذي أحاط بنا لم يفكر أحد من الأبطال في العودة وترك المهمة التي كانت مسألة حياة أو موت بالنسبة لنا ولإسرائيل أيضا. المحاولة الثانية انقطعت أخبار أفراد الكتيبة 143 عن القيادة العامة للقوات المسلحة، فكان لزاما إرسال فريق آخر لاستطلاع الأمر، وأن يمد الناجين من أفراد الكتيبة بالمساعدة لإتمام المهمة أو يقوم الفريق بالمهمة عنهم. انطلقنا بطائرتين في الساعة السادسة مساء، من العين السخنة، وحلقنا على مسافة قريبة من سطح الخليج حتى رأس سدر ووصلنا إلى المضيق اكتشف العدو موقعنا وأرسل طائرتى ميراج أمطرا الطائرتين بالنيران ما أدى إلى استشهاد كل أفراد المهمة باستثناء خمسة أفراد كنت من بينهم، حيث أنقذتنا قوارب خفر السواحل من نيران العدو وأسنان أسماك القرش، وعدنا مرة أخرى إلى العين السخنة تسكن الشظايا أجسادنا بوفرة وعشوائية. المحاولة الثالثة صباح يوم 7 أكتوبر، أبلغنى العقيد أركان حرب فتحى عباس، مدير مكتب مخابرات السويس – رحمه الله- بضرورة إعادة المحاولة مرة أخرى، من خلال تجهيز 10 قوارب بمحركات نفاثة تنطلق من القاعدة البحرية الأدبية، إلى منطقة رأس مسلة ثم نسير 80 كيلو باتجاه المضيق، وبالفعل في تمام الساعة الرابعة خلال استعدادنا للتحرك سمعت صوت محركات بالبحر ومن خلال نظارتى المعظمة رأيت قاربين للعدو يحملان صواريخ من نوع جبرائيل سطح – أرض، يستطيع الواحد منها إزاحة 500 متر مربع من سطح الأرض، ونتيجة إطلاقهم النار علينا سقط أكثر من 140 شهيدا. المحاولة الرابعة أعدنا المحاولة من جديد من منطقة الشط، مستخدمين 10 عربات برمائية، حيث استقليت العربة الأولى وعبرت القناة وصنع الجنود ثغرة في الساتر الترابى أمر منها، ولكن البرك المائية التي تكونت حالت دون تقدمى وانزلقت العربة إلى المياه، أما باقى العربات فقد طالتها نيران العدو وتحطمت 7 منها، ولم نيأس ولم يصل الإحباط لقلوبنا ولكن ازداد الإصرار بداخلنا على ضرورة نجاح المهمة التي أسندت إلينا. المحاولة الخامسة قررت القيادة العامة للقوات المسلحة خطة جديدة تتضمن أن تقطر طائرات مروحية طائرات شراعية تنطلق من منطقة الروبيكى بين القاهرةوالسويس، وتسقطها في منطقة الخيلج الغربى فتطير الطائرات الشراعية مع اتجاه الريح أعلى الخليج وتحط بالشرق في سيناء علها تجد أحياء من عناصر الكتيبة 143 الذين تفرقوا في المحاولة الأولى، تمدهم بالماء والطعام. بمجرد وصول الطائرات إلى منطقة تدعى "الحفاير" بين جبلى الجلالة وعتاقة رصدتها طائرات العدو وأسقطت الطائرات المروحية والشراعية وأبادتها عن آخرها. معجزات من رحم الإصرار استدعانى العقيد فتحى عباس إلى مكتب المخابرات بالسويس المشيد تحت الأرض، وحضر الجلسة كل من اللواء نبيل شكرى قائد الصاعقة، واللواء سيد الشرقاوى قائد مجموعتى، وشيخ قبائل الترابين وشيخ قبائل الحويطات، وأملوا على تفاصيل الخطة السادسة وكانت كالتالي: ننطلق بقافلة مكونة من 50 جملا محملة بالأسلحة والألغام والمعدات والإمدادات اللوجستية، وثلاثة من أبناء النوبة أبطال سلاح الهجانة بحرس الحدود وهم: رقيب أول السنوسى كاف أمين، وعريف متطوع أحمد صالح، وعريف متطوع محمد فراج، بالإضافة إلى دليل بدوى من المخابرات الحربية يدعى عم موسى. انطلقنا بقافلة الجمال ولدى وصولنا إلى منطقة الشط تبقى 20 جملا فقط على قيد الحياة، جراء استمرار غارات العدو، أما الجمال النافقة فقد كنا نستخدمها كدروع نحتمى داخل قفصها الصدرى وأحشائها من غارات الطائرات. فجر يوم الثلاثاء الموافق 9 أكتوبر وطئت أقدامنا الجانب الشرقى من القناة ومررنا بالساتر الترابي، يغمرنا الإحساس بالفخر والعزة، فأخيرا تخطوا أقدامنا على أراضينا المحررة وتتشبع أنفاسنا بهوائها، لحظة من الانتشاء مرت بنا وسط الدمار والدماء والخراب، أنستنا الأخطار التي تحيط بنا وبالاثنى عشر جملا المتبقية. سرنا بمحاذاة القناة باتجاه لسان بورتوفيق، نحتمى بشاطئها من نور البدر الذي يتوسط السماء ويحول ليلها إلى نهار، فوصلنا إلى آخر موقع تمكنت قواتنا من اقتحامه وهو "عيون موسى"، واحتمينا داخل الحفر الضخمة التي صنعتها صواريخ العدو في الصحراء وأسكنت بها أيضا الجمال التي تقلص عددها إلى 8 جمال، وبقينا بها طوال ساعات النهار، ونستكمل المسير مرة أخرى عندما يسدل الليل ستاره. شهدت منطقة عيون موسى معارك حامية بين قواتنا وطائرات العدو فمنذ أشرقت الشمس في الخامسة صباحا وحتى الحادية عشرة مساء، لم تنقطع مدافعنا عن إطلاق القذائف والطلقات وذابت مقدماتها الصلب. عندما حل المساء، توجهت إلى العقيد صلاح زكى قائد لواء المدفعية بالمنطقة وهنأته على سقوط بعض النقاط الحصينة للعدو في المنطقة، وطلبت منه السماح لى بعبور الحد الأمامى للدفاعات حتى "الأرض الحرام" بيننا وبين العدو، وتسليمى خرائط الألغام التي زرعتها قواتنا وقوات العدو بالمنطقة حتى أتفاداها، فأخبرنى أن المواقع متداخلة، ولا وجود لحد فاصل مستو بين القوات ما يحتم على المغامرة وعبور المنطقة دون خرائط لاستكمال المهمة. سرنا بعد آخر ضوء ليوم الثلاثاء بمحاذاة الخليج، لا نهتدى إلا بالبوصلة والنجوم بعد أن فقد الدليل "عم موسى" النطق والتركيز من هول الاشتباكات التي شهدناها بعيون موسى، ولا نرتوى إلا بقدر ما تملأ الماء غطاء "الزمزمية"، ولا نقتات إلا بما تجود به الصحراء من زواحف، وثعابين وما نحمله نوفره علنا نساعد به الناجين من عناصر المهمة الأولى، حتى أرسل الله لنا 40 كبسولة مياه مع طيار إسرائيلى سقطت طائرته على مسافة غير بعيدة منا، ولفظ أنفاسه بعد دقائق قليلة من وصوله إلى الأرض بالبراشوت. على بعد كيلو متر منا تمركزت قوات للعدو، وأطلقوا فوق رؤوسنا "فليرز" أضاءت السماء فوقنا، وكشفت موقعنا للعدو، بعد عدة دقائق جاءت الطلقات من كل اتجاه.. جرينا نحتمى بالظلام، إلا أن أرجل الجمال غاصت في الرمال بما تحمله فوق ظهورها من مئات الكيلو جرامات، فكان لزاما عليّ أن أترك القافلة وأجرى باتجاه القوة التي تطلق علينا الطلقات المضيئة وتدميرها، حملت "آر بى جي" على ظهرى و"سنوسي" حمل رشاشا، وجرينا باتجاههم في مياه الخليج واستطعنا تدمير سيارة جيب كانت تحمل مدافع الهاون التي تستهدف القافلة، ولكن لدى عودتنا وجدنا 6 دبابات للعدو ظهرت من العدم وصبت جام غضبها علينا، وهنا نزل علينا لطف الله حيث تحررت الجمال من الرمال التي غاصت داخلها جراء فزعها من طلقات الهاون، وجرى جملان باتجاه الدبابات ما شتت انتباه الأعداء وأخذوا في مطاردتهما بعيدا عنا. 25 كيلو مترا تفصلنا عن وجهتنا، اعترض طريقنا خلالها العدو عدة مرات.. نجونا بأعجوبة، حتى اكتشفنا أنهم يقتفون أثرنا من خلال آثار أقدامنا على صفحة الصحراء، لذلك ارتدينا بأرجلنا "فروة خروف" لتمحو الآثار. وصلنا مساء الأربعاء إلى المضيق، أبلغت القيادة عبر جهاز اللاسلكى في ثوان معدودة حتى لا يتعرف العدو على موقعنا من موجات اللاسلكي، ب 4 كلمات: "القافلة وصلت بحمد الله".. ورابطنا على مسافة 3 كيلو من المضيق، وزحفت وحدى فجر الخميس باتجاه المضيق لاستطلاع الوضع أمامه، وجمع المعلومات، ولدى وصولى اختبأت أسفل المضيق، وأبلغت مكتب المخابرات بالسويس بالمعلومات المطلوبة، وفى غضون نصف ساعة شاهدت الطائرات المصرية تحلق فوق الموقع وتدك قوات العدو، وتحصد مئات الأرواح من جنوده، تمت المهمة بنجاح، ورفعت كفى إلى السماء أشكر الله على فضله فقد أخذنا بثأر زملائى الذين شاهدت موتهم بعينى وانصهار عظامهم وأشلائهم بقذائف الدانات خلال تلك الرحلة، فضلا عن رؤيتى زملائى يموتون برصاص العدو أثناء نزولهم لملء زمازمهم بالمياه. فنجاح الموقعة كان أكبر ثأر لأرواح هؤلاء الشهداء فلو لاقدر الله فشلت مهمة "قافلة الجمال الانتحارية" التي يقودها خمسة رجال فقط لترتب على ذلك فشل عملية العبور كلها. وعاد الرجال الخمسة بعد أن أتموا مهمتهم ببسالة فائقة لكنهم عادوا ثلاثة يحملون اثنين منهم بعد أن لدغت أفعى العريف أحمد صالح في قدمه ولم يستطع السير وزلقت قدم السنوسى من فوق أحد التلال فكسرت ساقه، ولم يستطع السير وسار الرجال الثلاثة 180 كم مشيا على الأقدام فوق الجبال والتلال والمرتفعات الشاهقة يحملون زميليهم؛ لأن العدو كان قد كشف الطريق الذي سلكوه فسلكوا طريقا آخر أكثر وعورة وخطورة، حتى عادوا لوحدتهم سالمين.