بين ثورة تنادي بالحرية وتحقيق العيش الكريم لأبناء الشعب وجماعة تسعى جاهدةً لتنفيذ خطة التمكين على أرض الوطن، تبقى الثورة الإخشيدية، علامة فارقة في التاريخ المصري. خرج المصريون فى عهد الإخشيديين يطالبون برحيل والي مصر، نتيجة للمجاعة التى حدثت، وكتبوا للفاطميين الذين اشتهر عهدهم بالازدهار فى دول المغرب العربي، لإنقاذهم من الفقر والجوع الذى أصاب البلاد، وأدى لانهيارها. وتعتبر هذه المجاعة هى الثانية التى أصابت المصريين فى عهد الدولة الاسلامية، وكانت الأولى خلال حُكم الدولة الأموية، لكن «الإخشيدية» كانت أكثر عنفاً. لم يجد المصريون فى دولة الإخشيد ما كانوا يحلمون به من حياة كريمة وازدهار كسابق الدول الإسلامية فى عهد العباسيين والخلافة الإسلامية، بل كان الاخشيديون اكثر تشدقا وخطابة ورسما لأحلام واهية، تتعلق بازدهار اقتصادي، تحول بين ليلة وضحاها إلى قحط، فجدبت الأرض، وهلك الزرع والحرث. يروي أبو المحاسن الظاهري، العلامة والمؤرخ المصرى خلال العهد المملوكي، فى كتاب "النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة"، أن المجاعة فى عهد الإخشيديين وصلت إلى ذروتها وأتت على الأخضر واليابس، وأسفرت عن ثورة الناس فى الشارع، مطالبين بسقوط الدولة الإخشيدية. كانت المجاعة سبباً رئيسياً فى مجيء الفاطميين، بعد ثورة المصريين ضد الإخشيديين, ويذكر أبو العباس أحمد بن علي تقي الدين المقريزى الشافعي، شيخ المؤرخين المصريين، فى كتابه "السلوك فى معرفة دول الملوك" أن مجىء الفاطميين كان بسبب شدة المجاعات التى حدثت، وتعذر وجود ما يسد جوع الشعب، فخرجوا مطالبين برحيل الوالى الإخشيدي، وكتبوا للوالى الفاطمي، المعز لدين الله، أن يفتح مصر ويحررها من فساد الإخشيديين. ويذكر عبد الرحمن الحضرمي، الشهير بابن خلدون، المؤرخ العربى التونسى الأصل، ومؤسس علم الاجتماع الحديث، فى كتابه «مقدمة ابن خلدون»، أن المصريين كاتبوا المعز الفاطمي، بأن يأتى إلى مصر لتحريرها من قبضة الإخشيديين، فأرسل جيشا بقيادة جوهر الصقلى، ووصل الفاطميون مصر، وعملوا على تخفيف حدة المجاعات القائمة، باتخاذ عدة إجراءات، منها حمل الغلال معهم من المغرب. كما اهتمت الدولة بتوحيد مطالب الشعب، وأقاموا نظام الحسبة، ومراقبة السوق، وكان الوالي يعين موظفاً كبيراً، يستخدم الخبراء من بين أصحاب الصناعات والحرف، وكبار التجار بالقاهرة، لمراقبة السوق والأسعار. ورغم ما سبق، لم تستمر هذه الحال فى مصر كثيراً، حتى عادت المجاعة مرة أخرى، وظهرت في عهد الخليفة الحاكم بين 395و 399 هجرياً، وثار الشعب المصري، مطالباً بما يسد جوعه، فأدرك الخليفة هذه الثورات، واتخذ عددا من الإجراءات منعاً لتفاقم الأزمة، وتكرار ما حدث مع الإخشيديين. عمل الخليفة على تثبيت الأسعار، بمنع تذبذب العملة، وتحديد مقاديرها، وإنزال عملة جديدة تفرق على الصيارفة، بجانب تحديد سعر كل شىء وخاصة الحبوب، لدرجة أنه كان يدخل البيوت ويوزع الأموال على الناس بنفسه، واستخدم وسائله الخاصة فى منع الناس من تخزين الحبوب، فضرب جماعة بالسوط، وشهر بهم وفضح أمرهم. وساق العلامة الرومي الأصل، شهاب الدين عبد الرحمن أبو عبدالله، الملقب بياقوت الحموي، فى كتابه الحجة «معجم البلدان»، أن بداية المجاعة فى العصر الإخشيدى كانت فى سنة 327 هجرية، بعدما هجم على مصر جراد لا توصف كثرته – بحسب تعبيره - حتى منع وقوع شعاع الشمس على الأرض، وأتى على كرمان العنب والفواكه والنخل، حتى خربت البساتين والحقول. وفي سنة 347ه، شهدت مصر هجوم جراد آخر، أتى على جميع الأشجار، ونفقت الماشية، وعمت مجاعة أشد من الأولى، أسفرت عن وفاة المئات، وأكل الناس حيوانات الشوارع، وجيف الماشية, ثم حدث اجتياح الفئران لمصر. وقال "المقريزي" إنه وقع فى سنة 341 ه، وباء الفأر، وأهلك الغلات، وحدثت مجاعة شديدة، فاضطر الناس لأكل الكلاب والقطط، ثم عمدوا إلى الفئران نفسها، خاصةً أن اصطيادها كان سهلاً، نتيجة ضخامتها، فكان الفأر يعادل في حجمه الأرنب، ثم حدث حريق القاهرة الشهير فى عصر الدولة الاخشيدية. وفي سنة 343ه، في عهد كافور الإخشيدي، وقع حريق كبير بالفسطاط، في سوق العسل، وبات الناس في خطر عظيم، فركب كافور الاخشيدى وأمر بالنداء "من جاء بقربة أو كوز ماء، فله درهم". بلغ إجمالي ما صرفه "كافور" 10 آلاف درهم، مقابل ملء 100 إناء، وكان جملة ما احترق غير البضائع والأقمشة 16 ألف دار, ثم واجهت مصر أخطر أزماتها الاقتصادية على مر تاريخها خلال حكم الدولة الإخشيدية، استمرت تلك الأزمة تسع سنوات كاملة، بدأت عام 352ه. وكان سبب الغلاء أن ماء النيل انتهت زيادته إلى 15 ذراعا، وزاد السعر، لدرجة بلغت الضعف، والضعفين أحياناً، وندر الخبز، فلم يوجد، وبلغ القمح أعلى سعر, وانتقضت الأعمال لكثرة الفتن، وتم نهب الديار والغلات، وثار الناس في مصر بسبب السعر، ودخلوا الجامع العتيق بالفسطاط، يوم جمعة، وازدحموا عند المحراب، فمات رجل وامرأة في الزحام، ولم تؤد صلاة الجمعة يومئذ. واستمر الغلاء إلى سنة 355ه، وتعرض الصعيد لهجمات النوبة التي وصلت حتى اخميم بسوهاج، وفسد ما بين أبي الحسن علي بن الإخشيد، صاحب مصر وبين كافور الإخشيدي مدبر مملكته، حتى منع كافور الناس من الاجتماع به، ولم يحسم الخلاف إلا وفاة أبي الحسن علي، وهو مريض من شدة ما وجد من البلاء. وفي سنة 355 ه انفرد كافور الاخشيدى بحكم مصر وبعد أن وعد المصريين بالقضاء على المجاعة والفساد أخلف وعده، وبدأ العصر الاخشيدى فى السقوط، بعدما ثار المصريون وخلعوا الأمير الإخشيدي، وطالبوا الفاطميين بدخول مصر لتحريرهم من الفقر والذل. وفى تحليله لأحداث تلك الثورة، أكد الدكتور قاسم عبده قاسم، المؤرخ المصري، أن المجاعة التى وقعت فى العصر الإخشيدي، بلغت ذروتها حتى أدت الى انتهائه، ومجيء الفاطميين، الذين استقبلهم المصريون بترحاب وحب شديدين. وأضاف "قاسم" أن إقدام العرب وغيرهم من الدول التى حكمت مصر، سواء الأمويين أوالعباسيين أوالإخشيديين، لتخليصها من العصر السابق، كان لعلمهم بأن مصر مليئة بالخيرات، وكانت خزينة الغلال فى العالم، حينها. وتابع قائلاً، "أدرك الولاة هذه الحقيقة، فتم نهب خيرات البلاد، وظل أهلها يعانون من المجاعة، وهو ما دفع إلى خروج الناس للثورة على الجوع، وفساد الحكام، خاصةً كافور الإخشيدي، الذي كان يسعى للتودد إلى الوالى، ويرسل إليه الهدايا والعطاءات".