عكفت على تربية أبنائى حتى وصلوا إلى مناصب تليق باسم والدهم الشهيد... وأراه في وجوه أبنائى وأحفادى الأم المثالية.. اللقب الذي يجب أن نكرم به هذه السيدة التي تحملت بعد الزوج والحبيب وتابعت أخباره عن طريق البيانات ونشرات الأخبار وعاد من الحرب سليما ليموت بعدها بعامين في معركة خاصة وفريدة من نوعها ويكون عبرة لباقى سلاح الطيران المصرى بل تدرس بطولته في العديد من كليات الطيران في العالم. الدكتورة كريمة محمود يونس زوجة البطل "طيار محمد عبد الوهاب كريدي" صاحب لقب "شهيد بدون معركة" فهو أول بطل يحصل على نوط الشجاعة بدون معركة. الدكتورة كريمة تزوجت "كريدي" على خلفية قصة حب امتدت لسنوات طويلة، لكنها لم تتمكن العيش معه سوى أيام معدودة تصفها بأنها "أيام العمر كله". وقالت عنه أيضا: حب كبير ربط بينى وبين محمد، منذ كنت طالبة في الصف الأول الإعدادى وهو كان طالبا في الثانوية فنحن أبناء شارع واحد وأسرتينا على صلة قرابة ومحبة، ووجدت فيه سمات الرجولة والاعتزاز بالنفس منذ صغره وهذا ما جذبنى إليه وتمنيت أن أكون زوجته، والغريب أنه بادلنى نفس الشعور فكان حبنا فقط نظرات عابرة من خلف زجاج غرفتى حتى دخل كلية الطيران وصارحنى بحبه. وعن ذكرياتها المتعلقة بهذه الأيام.. وقصة استشهاد زوجها.. وتفاصيل أخرى كان الحوار التالى: كيف كانت كواليس ارتباطك بالشهيد "محمد"؟ "محمد" كان متفوقا جدا وابنا واحدا على أربع بنات، وفى العام الثانى من دخوله كلية الطيران وافقت أسرته على خطوبتنا وتم إعلانها بشكل رسمى، وتخرج في الكلية في عام 63، ثم سافر للمشاركة في حرب اليمن عام 64، وكان يذهب إلى هناك في مأموريات شهرية، وكنت منبهرة جدا ببطولاته التي يرويها لى في أيام إجازاته، حتى جاءت نكسة 67 وكان حزينا جدا وبعدها بشهرين تزوجنا، وحصل على إجازة زواج لمدة 3 أيام فقط، ليعود بعدها للمشاركة في الحرب، وكانت مهامه الأساسية تتركز في حماية الحدود البحرية من أي اختراق إسرائيلى لأن سلاحه طائرة قاذفات وبها صواريخ جو-سطح التي تدمر السفن العملاقة في البحر، كما أنه تولى مهمة تغطية قوات الصاعقة التي ضربت المدمرة إيلات. ظلت هذه المهام البطولية التي يقوم بها طوال حرب الاستنزاف إلى أن تم نقله إلى أسوان، بعد حصول مصر على 10 طائرات قاذفة بعيدة المدى أي تستطيع إطلاق صواريخها من على بعد 200 كم ولدقة وأهمية هذه الطائرات تم إخفاؤها في الجنوب بعيدا عن أعين إسرائيل ومرمى نيران معداتها الحربية. وكيف كانت حياتك بعد الزواج من بطل عمله يقضى قيامه بمهام صعبة؟ "محمد" كان كتوما جدا لا يفصح أبدا عما يحدث في عمله، وبسبب حبى الشديد له كنت أشعر بحجم الخطر الذي يقدم عليه، وحياتى الزوجية معه لم تتجاوز 8 سنوات، وإذا جمعت الأيام التي قضاها معنا في المنزل لن تتجاوز 90 يوما، ورغم هذا فقد كانت أسعد أيام حياتى وهى كل ما تبقى لى من ذكريات. شارك البطل في حرب 73 كيف علمت بمشاركته وتابعتيها؟ حتى يوم 6 أكتوبر لم أكن أعلم بميعاد الحرب سوى ببعض التفاصيل البسيطة من خلال "محمد" فقبل الحرب بأيام جاء إلى المنزل، وطلب أن اذهب معه لشراء ملابس داخلية جديدة وأفرولات جديدة، وعلمت بعدها أنه – وزملاءه- كانوا يشعرون أن الحرب اقتربت واتفق هو وزملاؤه الطيارون ارتداء كل ملابس جديدة ومطهرة عسى أن تكون هذه الملابس أكفانهم فيقابلون ربهم بمظهر جميل لأنهم يعرفون أن الشهيد يدفن بملابسه. ويوم الحرب كان سربه أول سرب دخل سيناء الساعة الثانية إلا ربع، واتصل ولم أكن أعلم وعندما عاد إلى قاعدتها الساعة الثانية والنصف اتصل بى وقال اسمعى الراديو لأننى من ضمن السرب الذي سيصدر عنه أول بيان من القيادة العامة، وعلمت أنها الحرب فقد استطاع بطائرته تدمير مكاتب الشئون الإدارية ومحطات الوقود ومركز قيادة العدو في منطقة بئر العبد التي يحتفظ فيها بالاحتياطي الإستراتيجى للقوات الإسرائيلية بالكامل، وعند سماعى للبيان قفزت من الفرح أنا ووالدته وأخذنا نهتف "الله أكبر.. الله أكبر". كيف كان شعورك وقت الحرب وزوجك يشارك في معركة النصر؟ هذا الشعور لا أستطيع حتى الآن وصفه فهو خليط من الفرحة والخوف لأن مصر أخيرا انتصرت ونسترد سيناء من الإسرائيلين الذين اغتصبوها وتسببوا في الألم والحزن لكل مصرى طوال 6 سنوات، إلى جانب شعور بالفخر بأن زوجى وحبيبى أحد المشاركين في هذا النصر العظيم، لكن الشعور الأكبر كان الخوف الشديد من فقدانه في الحرب، لا سيما أننى لم أتلق منه سوى اتصالين في اليوم الأول والثانى حتى وقف إطلاق النار. وبعيدا عن الجبهة كنا نحن أيضا في حالة طوارئ في جميع المستشفيات والعامة والعسكرية لاستقبال المصابين القادمين من الجبهة، وكلما رأيت مصابا أو شهيدا كان قلبى ينقبض على "محمد" وكنت أحاول التماسك من أجل أبنائى فقد رزقنى الله بولدين هما "أحمد وعمر". بعد انتهاء الحرب كيف قمت باستقبال البطل وكيف كانت الحياة؟ بعد نصر أكتوبر العظيم كان الناس كلها تستقبل الأبطال بالزغاريد والورود، وأذكر أننى علمت بقدومه من الجيران عندما سمعت زغاريد وأغانى في العمارة وحركة الكل يذهب اليه ويقبله ويحضنه استقبال الأبطال وظل منزلنا يعج بالمهنئين بعد عودته أياما كثيرة ولكنه لم تفرق معنا الحياة قبل الحرب وبعدها سوى بأشياء بسيطة وهو نقله إلى مطار قريب في القاهرة حيث كان يمكث معنا الخميس والجمعة ويعود إلى عمله صباح السبت حتى استشهاده بعد عامين من الحرب وتحديدا في العام1975. ماذا عن تفاصيل عملية استشهاده؟ بعد حرب أكتوبر شعرت بالارتياح لأن الحرب انتهت، وأن زوجى سيظل معنا أخيرا، إلى جانب أنه لم يصب بأذى في الحرب وكان حجم المخاطر قليلا إلى أن جاء اليوم الذي لا أريد تذكره أبدا يوم 1 سبتمبر 1975 وعلمنا بقصة استشهاده من زميله اللواء سمير رياض حاليا. وقال: كلفت بمهمة وأثناء اقترابى من مطار المنيا والاستعداد للنزول نحو 10 أميال استمعت إلى اتصال بين طائرات أخرى فيه حريق في محرك الطائرة. وبعد ثوان رأيت دخانا أسود كثيفا على الأرض فتدخلت بالمحادثة لمطار المنيا بلغته أننى طيار هليكوبتر في المنطقة ومستعد لعمل إنقاذ، وتوجهت إلى مستشفى المعادى ومعى الكابتن، وفى الطريق طلبنى الطيار وعرفنى على نفسه مقدم طيار، محمد عبد الوهاب كريدى الدفعة 14 طيران وسألنى عن هل أصابت الطائرة أحدا من المدنيين أم لا. وكتب اللواء سمير ملاحظته على الحادث أن الطيار محمد كريدى رفض القفز إلا بعد أن غير مسار الطائرة من الارتطام بمدينة المنيا وتوجه بها إلى منتصف النيل، والنيل في هذه المنطقة متسع جدا وبه عدة جزر خالية من الناس، وقال رحم الله الشهيد ضحى بنفسه لينقذ آلاف من أهالي المنيا والمنشآت والمساكن الموجودة بالمنطقة وهذا سر حصوله على نوط الشجاعة بدون معركة، وهذا الوسام كان الثانى بعد حصوله على الأول لمشاركته في حرب أكتوبر. وكيف سارت الأمور معكم بعد استشهاده؟ إننى لا أشعر أنه مات.. "محمد" معى بذكرياته الجميلة وبالخطابات التي كان يرسلها إلى من اليمن ومن السودان وليبيا وكل مكان ذهب إليه وعكفت على تربية أولادى أحمد الآن يعمل مدير تنمية بشرية في إحدى الشركات الكبرى و"عمر" الذي التحق بالكلية الفنية العسكرية وتخصص في هندسة الطيران وهو برتبة عقيد الآن مثل والده. كما أننى أرى "محمد" في أبنائى وأحفادى وفى المنزل لأنى اشتغلت وعلمتهم وربيتهم أحسن تربية تليق باسم وعظمة أبيهم الشهيد محمد عبد الوهاب كريدي.