ظل الأدب تصويراً وانعكاساً لما يحدث في المجتمع، يرصد بأقلام كتابه معاناة الشعوب وأزماتهم اليومية، أحلامهم ومشكلاتهم، يجسد تفاصيل السنوات في سطور قليلة ويرسم بألوانه حكايات وروايات. لكن رغم ما سبق لم يتحدث الأدب وخاصةً العربي عن الديكتاتورية صراحةً، واكتفي بالإشارة والرمز علي خلاف كتاب أمريكا اللاتينية، الذين تصدوا لقهر الطغاة بكتاباتهم، والتي جاءت واضحة مثل رواية «أنا الأعلي» لرواباستوس والسيد الرئيس» لآستورياس، و»اللجوء إلي المنهج»، لكاربانتيه، وخريف البطريرك» لماركيز، و»عرس التيس» لماريو برجاس يوسا، وغيرها من الروايات. ولأن أدب أمريكا اللاتينية هو أدب «الواقعية السحرية، نبدأ منه تناول «الديكتاتور»، حيث ذكر الكاتب إبراهيم العريس، في مقاله المنشور بجريدة الحياة اللندنية قبل أيام، أن أبرز روايات الديكتاتورية في أدب أميركا اللاتينية، رواية «أنا الأعلى»، للكاتب الباراغويّ، آوغوستو روا باستوس، رغم أنها لا تصل في شهرتها إلى أعمال ماركيز، وبارغاس يوسا، أو كاربانتييه، وآستورياس. وأرجع «العريس» سر تميز «أنا الأعلى»، إلى أن الراوي هنا هو الديكتاتور نفسه، ومن الفوارق الأساسية أيضاً أنه إذا كان معظم الكتّاب قد جعلوا لديكتاتورهم اسماً مستعاراً، فإن روا باستوس سمّاه باسمه التاريخي الحقيقي - الدكتور فرانسيا – ولعل في الإمكان هنا المقارنة مع تسمية غابريال غارسيا ماركيز لديكتاتوره سيمون بوليفار باسمه الحقيقي في «الجنرال في متاهته». وقال «العريس»، إن «باستوس» جعل بطله ديكتاتوراً من الماضي يملي على سكرتيره الخاص تفاصيل حياته، وإرادته خلال أيامه الأخيرة، فإنه واستخدم الكاتب ديكتاتور الماضي الحقيقي قناعاً للحديث عن ديكتاتور كان يحكم الباراغواي - وطن الكاتب – في توقيت كتابته للرواية. أما الأدب العربي فقد تناول الديكتاتورية بأشكال مختلفة وغير مباشرة فهي تظهر بصورة فنية معبرة عن المضمون الاجتماعي والسياسي، فمثلاً شخصية السيد عبدالجواد «سي السيد»، تعبر عن الديكتاتورية الذكورية، وهي أخطر الأنواع التي كانت سائدة في الخمسينيات والستينيات، في حين تمثل «أمينة» الزوجة المطيعة دائماً، والتي لا حول لها ولا قوة. ورغم ذلك، هناك آراء تؤكد خلو الرواية العربية من الحديث عن الديكتاتور وتسلط الحكام سواء صراحةً أو رمزاً، مفسرين ذلك بأن البطش والظلم سائدان فحسب، ولكن لأن أغلب المثقفين فضلوا أن يلتقطوا «الجزرة» التي مُدت لهم، فأغلبهم كان ينتمي للطبقات البسيطة، وانتقلوا للطبقات البرجوازية، وأصبحوا يملكون الحسابات في البنوك والعمارات، وبالتالي لم يكن فى وسعهم الحديث عن الديكتاتورية والظلم السائد. ولعل الوحيدين اللذين استطاعا أن يتحدثا عن الديكتاتور، هما أحمد فؤاد نجم، والموسيقي الشيخ إمام، فعندما قبض عليهما في عصر الرئيس جمال عبدالناصر، قال أحد المقربين للرئيس: «نقتلهما شبعاً بأن نقدمهما للإذاعة ونغدق عليهما مكافآت مالية كبيرة»، لكنهما لم يستجيبا لترف النعمة، وازدادت معارضتهما. كما يرى أصحاب هذا الرأي أن المثقفين علي استعداد لأن يأكلوا علي كل الموائد، ويرقصوا علي كل الأنغام، فقبل ثورة 25 يناير كانوا من دعاة حسني مبارك، وبعد الثورة تحولوا باستثناء القلة القليلة التي صمتت طيلة فترة حكمه، ولم تشر له في نصوصها لا من قريب، أو بعيد. ولجأ بعض الكتاب إلى استخدام الرموز نتيجة خوفهم علي حياتهم وقلمهم، وهذا عيب من عيوب الرواية العربية، فمثلا إبراهيم الكوني من الأصوات المعارضة للأوضاع في ليبيا، اختار إسبانيا مقاماً له، لكنه لم يتحدث عن الديكتاتور بصورة مطلقة. ومنذ فجر الرواية العربية نجد في الروايات التاريخية لجورجى زيدان ما يضع أيدينا علي هذه المعاني وخاصةً روايته «المملوك الشارد» التي صور فيها مذبحة القلعة، حيث قام محمد علي بالقضاء علي خصومه من السياسيين. أما الرواية العربية المعاصرة، فقد احتوت على انعكاسات مشهودة لأنظمة الطغاة من العسكريين، في جملة ليست قليلة من قصص نجيب محفوظ، ورواياته، خاصة «الكرنك»، و»أمام العرش»، أيضاً في روايات عبدالرحمن منيف، وصياغة للسجون والمعتقلات التي زج فيها ديكتاتور المشرق العربي خصومه ومعارضيه، ثم نجد الأمر في كثير من روايات السوريين والمصريين، حيث تتبدي عذابات المناضلين وتصفية بعضهم معنوياً وحياتياً. أما الشعر الحديث، فقد عالج قضية الديكتاتورية باستفاضة، من خلال رفض التاريخ العربي الذي كان قائماً علي وجهة نظر رجل واحد، وهو الحاكم الذي لم يختره الشعب منذ فجر الإسلام، وتحديداً «الدولة الأموية»، وحكم معاوية بن أبي سفيان». وعالج الكثير من الشعراء فكرة الحاكم المستبد في شعرهم، مثل صلاح عبدالصبور، وعبدالرحمن الشرقاوي، وأيضاً ناقشها الكثير من الأدباء، مثل خيري شلبي، وجمال الغيطاني، وفؤاد قنديل، من زوايا مختلفة. ولجأ بعض الأدباء، إلى أسلوب «الإسقاط» في كتابتهم، بمعنى أنهم تناولوا الحاكم الديكتاتور بأسلوب غير مباشر أو بالرمز، وصدرت منذ وقت قريب روايات تتناول شخصية الحكام الطغاة والمستبدين، مثل رواية «الزعيم يحلق شعره» للكاتب الراحل إدريس علي، عن الزعيم الليبي معمر القذافي، وكذلك رواية «قلاع ضامرة» للكاتب السوري عبدالرحمن حلاق، وغيرهما من الروايات التي تناولت ذلك الموضوع. «قلاع ضامرة».. رواية ممنوعة في سوريا تتجسد شخصية الديكتاتور بصورة واضحة، في رواية «قلاع ضامرة»، للكاتب السوري، عبدالرحمن حلاق، وتدور أحداث الرواية، في مجتمع يُحكم بقبضةٍ حديدية، لتتم السيطرة على مجريات الأمور، وهكذا تحول المكان الروائي إلى سجن كبير. ويظهر ذلك من واقع شخوص الرواية، والمليئ بالمتناقضات المنتشرة في جميع المدن السورية المحكومة بأفكار الحزب الواحد (حزب البعث العربي السوري)، وبالتالي يؤدي هذا الجوُ إلى خنق كل التيارات السياسية التي تخالفه، لأن هذا المجتمعَ يُحكمُ بمنطوق الفكر الواحد، الذي يغلق كل الأبواب على التيارات الأخرى المعارضة له، بل يتم سجن ومطاردة كل المنتمين لهذه التيارات. الطاغية والديكتاتور أما رواية «شيء من الخوف» لثروت أباظة، فتبرز كيف تحول الطفل الوديع، والشاب اليافع المحب، والحالم، إلى طاغية وديكتاتور؟، فهناك أشياء أسهمت في تحول عتريس من صورته الطبيعية –الإنسان السوي- إلى الشرس متحجر القلب ومتصلب الرأي. ورغم أن البطل كان وديعاً، لكن جده زرع الكراهية في قلبه، وساعدته البطانة، أو العصابة، حتى صار طاغية، وديكتاتوراً مريضا نفسياً. «ليالي ألف ليلة وليلة» الديكتاتورية أحد أشكال الحكم، تصبح فيه جميع السلط المطلقة بيد شخص (حاكم فرد)، يمارسها وفق إرادته وأهوائه، دون اشتراط موافقة الشعب على القرارات التي يتخذها، وهذا ما ترفضه جميع شعوب الأرض الباحثة عن الديمقراطية، لاسيَّما الشعوب التي تطمح إلى الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، حتى يتمتع كل فرد بحقوقه الأساسية في الحياة، لذا اندلعت ثورات الربيع العربي، التي أتت متوالية من تونس إلى مصر، ثم ليبيا، فاليمن، وفي الطريق سوريا. ويجسد ما سبق، نموذج نجيب محفوظ في روايته «ليالي ألف ليلة وليلة»، حيث كان القرار في يد الشعب، لا الحاكم – شهريار - الذي انعزل عن الشعب في قصر الجبل، ولا يصدر إلا القرارات، وعلى شعبه السمع والطاعة، وهو ما دفع بالشعب الممثل في المقهى، بكل فئاته أن يختار من بينه مَن شعر بآلامه، وهو معروف الإسكافي، ما دفع شهريار إلى الاستسلام لقرار الشعب، ومن ثم ينتصر الشعب، ضد الحاكم الديكتاتور، الذي لا يرى إلا ذاته. وإجمالاً لكل الآراء المؤيدة أو المعارضة لدور الأدب، وتحديداً العربي، في إبراز صورة الديكتاتور، إلا أن الإبداع العربي كغيره من الإبداع الإنساني، لا يمكنه تجاهل وضعية القهر والتسلط التي عاشها تحت حكم الديكتاتوريات. لكن صعوبة الاستشهاد بالنصوص العربية التي تناولت شخصية الديكتاتور، ترجع بالأساس إلى غياب الدراسات والكتابات النقدية التي تبحث عن وضعية شخصية الديكتاتور في الأدب العربي، حيث تخاذل النقاد أنفسهم، عن تخصيص الجهد والوقت، لإلقاء الضوء على هذه الأعمال، وتخصيص دراسات عن صورة الديكتاتور في الأدب العربي، لتجعل النماذج والاستشهادات حاضرة في ذهن المتلقي بمجرد الحديث عن شخصية الديكتاتور. فالمشهد الإبداعي العربي ثري بتنوعه وتعدد أجياله والانعكاسات التي تتبدى في الأعمال الإبداعية عن حكم الديكتاتور، خاصة فيما يعرف بأدب السجون، سواء في المذكرات عند مصطفى أمين وأحمد رائف وزينب الغزالي، أو في الأعمال الإبداعية عند كثير من كتابنا مثل عبدالرحمن منيف، وصنع الله إبراهيم، والطاهر وطار، ومحمد البساطي، وغيرهم كثير لا يمكننا حصرهم هنا.