على الرغم من الإحساس العميق بالفضل والعرفان الذى يشعر به كل مسلم تجاه فقه الأئمة الأربعة وكبار الأئمة المسلمين بشكل عام، إلا أنه يستشعر كثير من المسلمين اليوم الحرج، بسبب ما تواتر على صفحات هذه الكتب من فتاوى وأحكام منسوبة إليهم، لا تحمل الحد الأدنى من العقلانية. لم يسلم فقه الإمام أبو حنيفة النعمان من غرائب الفتوى، على الرغم من اعتراف الجميع بعلمه وفضله، فقد أثار حفيظة فقهاء عصره بسبب بعض الفتاوى التى أطلقها، فغضبوا لأنها غير مقبولة، ولا تتفق مع تعاليم الشريعة الغراء، وذلك حين أفتى بأن الرجل إذا تزوج امرأة فى مجلس، ثم طلقها فيه، ثم أتت امرأته بولد بعد ستة أشهر من العقد لحقه الولد، أى صار ابنه، ومثله رجل تزوج فى المشرق بامرأة فى المغرب، ثم مضت ستة أشهر وأتت له بولد، فإنه يلحق به، لأن الولد إنما يلحقه بالعقد ومضى مدة الحمل، وإن علم أنه لم يحصل منه الوطء! كما أفتى أبو حنيفة بأنه لو تزوج رجلان امرأتين، فاختلط الأمر بينهما عند الدخول، فزُفت كل واحدة إلى زوج الأخرى فوطأها وحملت منه لحق الولد بالزوج لا بالواطئ، لأن الولد للفراش، وأفتى بأنه لو ادعى مسلم وذمى ولداً، وأقام كل منهما بينَّة فإن الولد يلحق بالمسلم، وإن كان شهود الذمى مسلمين وشهود المسلم من أهل الذمة، معللاً بأن ذلك موجب لإسلام الولد، فى حين أن هذا يؤدى لاختلاط الأنساب التى يحرص عليها الإسلام جُلَّ حرصه، بالإضافة إلى فتاويه التى ترسخ زواج المتعة الذى حرَّمه الإسلام، حيث أفتى بأن الرجل إذا استأجر المرأة للوطء، ولم يكن بينهما عقد نكاح فليس ذلك بزنا، ولا حدَّ فيه، على اعتبار أن الزنا عنده ما كان مطارفة وأما ما فيه عطاء فليس بزنا، وفى كتاب «المُصنَّف» لابن أبى شيبة بابٌ باسم «مخالفات أبى حنيفة للأحاديث المروية عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم»، وذكرت كتب منها فى كتاب «الانتقاء» لابن عبد البر و»الخطيب فى تاريخ بغداد» أن وكيع بن الجراح قال : «وجدتُ أبا حنيفة خالف مائتى حديث عن رسول الله». ومن الفتاوى الغريبة أيضاً ما أفتى به محمد بن اسماعيل البخارى صاحب الصحيح بأن لبن البهيمة ينشر الحرمة فلو شرب اثنان أو أكثر من لبن شاة واحدة صاروا إخوة أو أخوات فى الرضاعة، فى حين أن الرضاع مُعتبر بالنسب، وكما لا يتحقق النسب بين آدمى وبين البهائم فكذلك لا تثبت حرمة الرضاع بشرب لبن البهائم، مشيراً إلى أن هذه الفتوى كانت سبباً فى طرد الإمام محمد بن اسماعيل البخارى صاحب التاريخ رضى الله عنه وإخراجه من بخارا حيث قدم بخارا فى زمن أبى حفص الكبير وجعل يفتى فنهاه أبوحفص وقال:» لستَ بأهل له» فلم ينتهِ حتى سئل عن هذه المسألة فأفتى بالحرمة فاجتمع الناس وأخرجوه. حتى الإمام الشافعى لم تخل فتاواه من الغرابة، على الرغم من ندرتها، حيث أكد على أن أكثر مدة للحمل هى أربع سنوات، مستنداً إلى ما رواه البيهقى فى سننه بأن الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك بن أنس: إنى حدثت عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: «لا تزيد المرأة فى حملها على سنتين قدر ظل المغزل»، فقال: سبحان الله من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان امرأة صدق وزوجها رجل صدق حملت ثلاثة أبطن فى اثنتى عشرة سنة تحمل كل بطن أربع سنين. وعليه فإن المرأة إذا ولدت لأربع سنين فما دون من يوم موت الزوج أو طلاقه ولم تكن تزوجت ولا وطئت ولا انقضت عدتها بالقروء, ولا بوضع الحمل فإن الولد لاحق بالزوج وعدتها منقضية به. كما هذه المرأة التى أنجبت بعد فراق زوجها بأقل من أربعة أعوام لا تتهم بالزنا وذلك لهذه الحالة التى رصدها الإمام الشافعى رحمه الله وغيره والتى جعلت جمهور العلماء يرجحون أن هذه الفترة هى أطول فترات الحمل فيكون هناك شبهة احتمال أن تكون هذه المرأة حالة شاذة نادرة فيدرأ بها التهمة والحد عن المرأة لأن الحدود تدرأ بالشبهات والحيطة واجبة فى الفروج وفى الدماء. بالاضافة إلى فتواه بأن زواج الرجل من بنته من الزنا حلال ومثله زواجه من أخته وبنت ابنه وبنت بنته وبنت أخيه وأخته من الزنا، مستدلاً بأنها أجنبية منه ولا تنتسب إليه شرعاً ولا يجرى التوارث بينهما، ولا تعتق عليه، إذا ملكها ولا تلزمه نفقتها وعليه فلا يُحرم عليه نكاحها كسائر الأجانب. بعض المصادر أشارت إلى فتاوى الإمام مالك بن أنس الشاذة، حيث أفتى بطهارة الكلاب والخنازير، وأنه إن ولغا فى طعام لم يحرم أكله، وعنده أن الأمر بغسل الإناء بعد ولوغ كلب فيه مجرد تعبد، كما أفتى بجواز أكل الحشرات كالديدان والصراصير والخنافس والفئران والجراذين والحرباء والعصا والحية، وحلال الزواج من ابنة الرجل من الزنا ومن أخيه وبنت ابنه وبنت بنته وبنت أخيه وأخيه من الزنا، كما ذهب الإمام مالك إلى أن أقصى مدة الحمل سبع سنين فلو طلق الرجل امرأته أو مات عنها فلم تنكح زوجاً آخر ثم جاءت بولد بعد سبع سنين ينسب للرجل، كما أفتى بحلال الذبيحة التى لم يذكر اسم الله عليها لأن التسمية مستحبة عنده غير واجبة لا فى عمد ولا فى سهو متجاهلاً قوله تعالى: «ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق». اكتفى الإمام أحمد بن حنبل بإثارة الجدل حول فتوى وحيدة وهى أن أقصى فترة للحمل هى أربع سنوات، مستنداً إلى الأحاديث نفسها والأدلة الشرعية ذاتها التى استند إليها الأئمة مالك والشافعى وأبوحنيفة. أما ابن حزم الظاهرى الأندلسى (384 - 456ه، 995 - 1063م) فقد سبق الدكتور عزت عطية الاستاذ بجامعة الأزهر وصاحب فتوى إرضاع الكبير الشهيرة، حيث أفتى ابن حزم أن الرجل الكبير البالغ له أن يرضع من امرأة فيصير ابنها من الرضاعة، فيحل له بعد ذلك ما يحل لابنها من الرضاعة، وهذا الحكم يثبت له وإن كان المراضع شيخاً كما أفتى ابن حزم بجواز الاستمناء ونقل الفتوى بذلك عن الحسن البصرى وعمرو بن دينار وزياد بن أبى العلاء ومجاهد. ومن الأمور المثيرة فى فتاوى ابن حزم أن من طالت يده من الفساق أو قصرت أن يأتى إلى زوج أى امرأة عشقها فيضربه بالسوط على ظهره حتى ينطق بطلاقها مكرهاً، إذا اعتدت المرأة أكرهها الفاسق على أن تتزوجه بالسياط أيضاً حتى تنطق بالقبول مكرهة فيكون ذلك عندهم نكاحاً طيباً وزواجاً مباركاً حلالاً يتقرب به إلى الله تعالى. المراجع: - «الأئمة الأربعة» الدكتور مصطفى الشكعة. -«اعتقاد الأئمة الأربعة» الدكتور محمد عبد الرحمن الخميسى