الخلاف بين علماء الشريعة، والفلاسفة والمفكرين قديم قدم الدين نفسه، مهما تعاقبت العصور والأزمان، واختلفت الأماكن والبلدان، وتباينت أحوال العباد من الشدة والرخاء، فتبدأ حلقة الصراع بإعمال العقل في المسائل الدينية من قبل المفكرين فتثير حفيظة أهل الشريعة لأغراض عدة منها الصالح والطالح، إما غيرة وحمية على ما غرس فيهم من تعاليم حفظوها عن ظهر قلب وأصبحت من المسلمات التي لا تقبل جدلا أو نقاشا، أو خوفا وحرصًا على سطوة وسلطة تكسبوها من اشتغالهم بالدين، خاصة من قبل العامة والبسطاء، فيحتد الصراع بالدخول في مناظرات وحوارات تنتهى عادة بإلقاء التهم والفتاوى في حق هؤلاء المفكرين أو الفلاسفة بالتكفير والزندقة، فيصبحون عرضة للسجن، النفي، أو إلى القتل. ""تهافت الفلاسفة" و"تهافت التهافت" كتابان شاهدان على أحد أهم الصراعات في التاريخ الإسلامى بين عظيمين كل في مكانه يمثلان الشريعة والفلسفة، وهما الإمام أبو حامد الغزالي، والعالم ابن رشد. الإمام أبو حامد محمد الغزالي، هو أحد أشهر علماء المسلمين في القرن الخامس الهجري، ولد وعاش في طوس، سافر إلى نيسابور لتلقى علم فقه الشافعية، فقه الخلاف، أصول الفقه، علم الكلام، المنطق، ثم هاجر شابًا إلى بغداد وعمل مدرسًا في المدرسة النظامية في عهد الدولة العباسية، ولقب بعدة ألقاب أهمها "حجة الإسلام". انتشر في عصره علم الفلسفة وتأثر دارسوه مثل الفارابى وابن سينا، بأفكار فلاسفة اليونان وعلى رأسهم أرسطو، كما استندت الفرقة الباطنية في مذهبهم إلى أصول فلسفية، ذلك المذهب الذي كانت تتبناه الدولة الفاطمية في مصر وتهدد به بقاء الدولة العباسية في بغداد، لذا لجأ الخليفة المستظهر العباسى إلى "الغزالي" للرد على تلك الفرقة من خلال زعزعة الأسس الفلسفية التي بنى عليها منهجهم، فعكف "الغزالي" على دراسة علم الفلسفة عامين، وكان أول نتاج له في هذا الشأن هو كتاب "مقاصد الفلاسفة" الذي بين فيه منهج فلاسفة عصره، ثم نقد ذلك المنهج بكتابه "تهافت الفلاسفة"، الذي حكم فيه بالكفر على الفلاسفة في ثلاث مسائل وهي: (قولهم بقدم العالم، وقولهم إن الله يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات، وقولهم ببعث الروح وإنكارهم حشر الأجساد في الآخرة)، كما حكم "الغزالي" بالبدعة في كتابه في 17 مسألة أخرى، أهمها: (أبدية العالم وأزليته، صانع العالم، الوجود والماهية في الذات الإلهية، اللوح المحفوظ ونفوس الملائكة)، وغيرها. يبدأ "الغزالي" كتابه بالأسباب التي دفعته إلى القيام بهذا العمل، قائلا: "ما دفعنى إلى تأليف هذا الكتاب أننى رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب والنظراء بمزيد الفطنة والذكاء وقد رفضوا وظائف الإسلام واستحقروا شعائر الدين واستهانوا بتعبدات الشرع وحدوده بفنون من الظنون يتبعون فيها رهطا يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا ولا مستند لضلالهم إلا تقليد سماعى وأن مصدر ضلالهم سماعهم أسماء هائلة كسقراط وأفلاطون وأرسطو وأمثالهم فلما رأيت هذا العرق من الحماقة انتدبت لتحرير هذا الكتاب". "قدم العالم" "قدم العالم"، أول مسألة كفر فيها الغزالى الفلاسفة وعلى رأسهم ابن سينا الذي قال: "إن العالم موجود ونعيش فيه، هو عبارة عن سلسلة من الظواهر المتغيرة والتي بعضها سبب للبعض الآخر وذلك بوصفه ممكنًا فلابد له من فاعل من خارجه ويكون الفاعل المقابل المنطقى لممكن الوجود وهو واجب الوجود والذي وجوده في ذاته، وإذا فرض عدم وجود الواجب إذن محال وجود الممكن.. إن العالم واجب الوجود لا بنفسه بل بغيره، أي أن العالم لم يزل موجودا مع الله تعالى معلولا له ومسوقا له غير متأخر عنه بالزمان مساوقة ( أي ملاحقة) المعلول للعلة ومساوقة (أي ملاحقة) النور للشمس وأن تقدم الله تعالى هو تقدم بالذات والرتبة لا بالزمان". أما "الغزالي" فيرد في كتابه، قائلا:" إن التخريج الذي قال به ابن سينا لا يثبت حدوث العالم (أي الخلق من عدم) بل تخريج يكرس القول بأزليته وقدمه، ذلك أن وصف العالم بوجوب الوجود ولو بغيره يعنى أنه منذ أن كان هذا الغير، أي الله والعالم موجود.. إن الله أراد منذ الأزل خلق العالم أي خلقه بإرادة قديمة وأراد منذ الأزل، كذلك أن يكون هذا الخلق في الوقت الذي اختارته هذه الإرادة". يعتقد ابن سينا وفلاسفة اليونان أن الله يعلم الأشياء علمًا كليًا، لا يدخل تحت الزمان ولا يختلف بالماضى والمستقبل والآن، وأن الله لا يغيب عن علمه مثقال ذرة في السماوات والأرض إلا أنه يعلم الجزئيات بطريقة كلية. بينما يقول "الغزالي":" العلم بالكليات هو أيضًا علم بالمختلف والمتعدد فالله يعلم الأشياء علما واحدا في الأزل والأبد والحال لا تتغير وغرضهم نفى التغير متفق عليه ولا يصلح العلم الواحد لأن يكون علمًا بالمختلفات لأن المضاف مختلف والإضافة مختلفة فالعلم بالحيوان لا يسد مسد العلم بالجماد والعلم بالبياض لا يسد مسد العلم بالسواد والعلوم المختلفة كيف تنطوى تحت علم واحد وإذا لم يوجب الاختلاف جازت الإحاطة بالكل بعلم واحد في الأزل والأبد ولا يوجب ذلك تغيرا في ذات العالم". أنكر فلاسفة العصر رجوع الأرواح للأجساد وبعثهم في الآخرة، ووجود النار الجسمانية والجنة وحور العين وسائر ما وعد به الناس في الآخرة، ويرون أن النفس جوهر روحانى مستقلا عن البدن، كانت موجودة قبله وستبقى بعده، وأن النفس وحدها دون البدن هي التي ستكون موضع الثواب والعقاب في الآخرة. ورد "الغزالي" على ذلك في كتابه قائلا: "من المخالف للشرع إنكار حشر الأجساد وإنكار اللذات الجسمانية في الجنة وإنكار الآلام الجسمانية في النار وإنكار وجود الجنة والنار كما وصفت في القرآن، فما المانع من تحقيق الجمع بين السعادتين الروحانية والجسمانية وكذا الشقاوة، ويرى الغزالى أن النفس باقية بعد الموت، وهى جوهر قائم بنفسه، وأن ذلك لا يخالف الشرع، بل دل عليه الشرع في قوله "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" وبما ورد من الإخبار بشعور الأرواح بالصدقات والخيرات، وسؤال منكر ونكير، وعذاب القبر وغيره، كل ذلك يدل على البقاء، وأن البعث سيكون بالبدن أي بدن سواء كان من مادة البدن الأول، أو من غيره، أو من مادة استؤنف خلقها". نشأ أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد، بالأندلس، في القرن الخامس الهجري، وكان- كما ذكرنا في ص3- فيلسوفًا، طبيبًا، فقيهًا، قاضيًا، فلكيًا، وفيزيائيا لقب ب"قاضى قرطبة"، و"الشارح"، دافع عن الفلسفة وأهلها، وصحح مناهج الفلاسفة السابقين المتأثرين بفلاسفة اليونان، مثل ابن سينا والفارابي، وعمل على تفسير نظريات أرسطو وشرحها، وأتهم في آخر حياته بالكفر والإلحاد، ووشى أعداؤه به إلى الخليفة الموحدى أبى يعقوب يوسف، فأمر بنفيه وإحراق كل مؤلفاته، ولكن قبل وفاة ابن رشد راجع الخليفة نفسه وندم على ما ألحقه من عقاب بابن رشد وأمر برجوعه إلى مراكش، واعتذر إليه، إلا أن الأجل لم يمهله ومات فور عودته من منفاه. يؤمن "ابن رشد" بأن الدين لا يتعارض مع الفلسفة، وقد ألف كتاب "تهافت التهافت" للرد على تكفير "أبو حامد الغزالي" للفلاسفة في الثلاث مسائل السالف ذكرها، وكذلك تصحيح بعض آراء أبن سينا، فيقول في مقدمة كتابه: "ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم فما كان منها موافقًا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرناهم منه وعذرناهم". وعن مسألة "قدم العالم" يقول ابن رشد: "وحل قضية القدم والحدوث للعالم هو في سريان الحركة في الموجودات في الأرض وفى السماء فالخالق أو الصانع لكل شيء هو المحرك الأول الذي لا يتحرك فهو مصدر الحركة، وهذه الحركة تجعل من العالم لا قديما ولا حادثا بل دائم الحدوث وهذا في نظر ابن رشد أقرب إلى مفهوم الحفظ الوارد في الشرع، بمعنى أن كل ما في الكون يتوقف على المحرك الأول الذي لا يتحرك، فهو الحافظ لوجود العالم جملة وتفصيلًا". وجاء رد "ابن رشد" على نقد "الغزالي" للفلاسفة في قولهم بعدم إدراك الله الجزئيات، في كتابه قائلا: "الأصل في هذه المشاغبة تشبيه علم الخالق بعلم الإنسان وقياس أحد العلمين على الثانى وأن تغير الإدراك بتغير المدركات وتعدد الإدراك بتعدد هذه المدركات ليس بعلم كما قال الغزالي.. وقول الغزالى إن تعدد الأنواع والأجناس يوجب التعدد في العلم صحيح، ولذلك الفلاسفة لا يصفون علمه سبحانه بالموجودات لا بكلى ولا بجزئي، والعقل الأول هو فعل محض وعلة فلا يقاس علمه على العلم الإنسانى لأن علمنا معلول للموجودات وعلمه علة لها". وأوضح في كتابه غاية ومقصد الفلاسفة حول تلك المسألة قائلا: "الفلاسفة يرون أن الرؤية الصادقة تتضمن الإنذارات للجزئيات الحادثة في الزمان والمكان، وأن ذلك العلم المنذر يحصل للإنسان في النوم من قبل العلم الأزلى والمدبر للكل والمستولى عليه، فكيف يفهم من قولهم أن الله لا يعلم إلا الجزئيات؟". وفى المسألة الثالثة والأخيرة عن حشر الأرواح أم الأجساد، قال ابن رشد: "إن هذه المسألة أول من قال بها هم أنبياء بنى إسرائيل الذين أتوا بعد موسى عليه السلام، وذلك بين من الزابور ومن كثير من الصحف المنسوبة لبنى إسرائيل وكذلك في الإنجيل وفى شريعة الصابئة". ويعتقد ابن رشد أن الحشر والوجود الأخروى سوف يكون له نشأة أخرى أعلى من هذا الوجود وطور آخر أفضل من هذا الطور، مستشهدًا بالحديث القدسى عن الجنة: "فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر". وعلى أي حال.. فإن مهما تباينت الأفكار واحتلفت الرؤى فإن هذا لا يعطى أحدًا الحكم على غيره بالكفر والزندقة لاسيما أن آفاق الإسلام أرحب بكثير من تلك الأحكام الطبيعية والأوصاف المتسرعة فضلا عن أن الحكم بالكفر أو الايمان من سلطة السماء وليس الأرض. المصادر: ◌ كتاب "تهافت الفلاسفة" للغزالي. ◌ كتاب "تهافت التهافت" لابن رشد. ◌ دراسة بعنوان "الحوار بين الغزالى وابن رشد في كتابيهما تهافت الفلاسفة وتهافت التهافت".