قبضايا بالزى العسكري أثناء تغطيته لحرب أكتوبر في كتابه «معركة العبور» الذي طبع في الأسبوع الأخير من أكتوبر 1973، وصدر منه ثمانية طبعات وهو أول كتاب صدر عن ملحمة العبور يسرد الدكتور صلاح قبضايا رحمه الله عميد المراسلين العسكريين، حكاية ملحمة العبور العظيم لقواتنا المسلحة الباسلة في 6 أكتوبر 1973، كشاهد عيان. عمل مراسلا حربيا لجريدة الأخبار في تلك المعركة، يقول في تقديم كتابه: هذه الصفحات أشبه بصورة صحفية نقلها مراسل حربى من فوق أرض الأحداث خلال الساعات الأولى لمعركة العبور، صورة سريعة لا تتعرض كثيرا لما سبق المعركة أو ما تلا العبور إلا بالقدر الذي يكمل إطار الصورة. ويكفى أن تكون هذه الصورة أول ما تخرجه المطابع عن أحداث هذا العمل العسكري العظيم، ولتكون خطوة متواضعة على طريق مفتوح أمام كل من سيكتب عن حدث تاريخى خالد هو معركة العبور. يقول قبضايا: شاهدت وعشت بنفسى بعض مراحل الإعداد والتدريب، ولم يكن كل ما نراه قابلا للنشر، وخلال الشهور السابقة للقتال منذ ربيع 1973 كنت أتتبع كمراسل عسكري عمليات تدريبية واسعة لقواتنا المدرعة، تدعمها طائرات القوات الجوية في الصحراء في مناطق تماثل تلك المناطق التي خاضتها المدرعات المصرية بنجاح باهر في سيناء. وهناك سر آخر كتمته في صدرى شهورا، حين أعدت المدفعية المصرية ميادين تدريب مصغرة هي صورة طبق الأصل لميدان عملياتها شرق القناة؛ حيث زودت هذه الميادين المصغرة بجميع المعالم الطبيعية الموجودة في ميدان سيناء، وشكلت فيها مواقع العدو بمعالم ترمز لوحداته وبطارياته. وأقامت قواتنا الجوية نماذج لقواعد العدو والأهداف التي سنتعامل معها، أما وحدات الدفاع الجوى فقد استندت دعائمها إلى صواريخ ذات ميزات خاصة تناسب العمليات المتوقعة، ولا ننسى دور قواتنا البحرية وتشكيلاتها المختلفة في حماية شواطئنا على البحرين المتوسط والأحمر، إضافة إلى دورها الهجومى فيما بعد. بقى أن نقول إن الرئيس السادات، القائد الأعلى للقوات المسلحة، كان يشهد البيانات العملية والمناورات التي تجرى على مستوى الوحدات الكبيرة، ولم يكن يسمح لنا كصحفيين بالإشارة إلى ذلك أو نشره، ويبدأ المراسل الحربى صلاح قبضايا، في كتابه سرد أحداث معركة العبور فيقول: في آخر سبتمبر 73، أعلنت حالة الطوارئ في القوات المسلحة، ولم يعلن ذلك بالطبع، وسبق ذلك وضع القوات المسلحة السورية بالجبهة الشمالية في حالة استنفار.. وكل ذلك استعدادا لمواجهة أي تطورات للموقف الذي يشير إلى احتمال قيام إسرائيل بعدوان جديد خلال شهر رمضان. وكان اليوم السادس من أكتوبر 1973 في الواحدة والنصف ظهرا، هاجمت قوات العدو منطقة الزعفرانة والسخنة في خليج السويس، مستخدمة الزوارق البحرية، تدعمها تشكيلات من الطائرات الإسرائيلية، وجاء الرد بضرب قوات العدو الجوية في سيناء، ثم هاجم العدو الخطوط الأمامية في الجبهة السورية، وتقابلت معها قوات الجيش السوري.. حتى جاء القرار التاريخى العظيم بدفع قواتنا إلى سيناء وكانت معركة العبور. كان اليوم الأول للقتال هو أهم وأخطر أيام المعركة.. فقد شهد هذا اليوم الحدث التاريخى الذي طال انتظارنا له، وعبرت قواتنا المدرعة قناة السويس، فقبيل الثانية ظهرا صدرت الأوامر لتشكيلات قاذفاتنا المقاتلة بمهاجمة مطارات العدو في سيناء، وضربها في وقت واحد.. وهذا ما حدث بالفعل، فقد قامت التشكيلات الجوية بالإغارة على المطارات الإسرائيلية (المليز، السر، الجفجافة، تمادة)، وقاعدة العريش الجوية.. اضطربت أجهزة العدو وأفراده، وحققت طائراتنا الهدف، وخرجت قواعد العدو الجوية في سيناء منذ اللحظة الأولى للمعركة مؤقتا. كانت هذه اللحظة هي فترة عبورنا القناة.. فكان هناك أكثر من ألف مدفع مصرى تطلق قذائفها من الضفة الغربية للقناة، على أهداف العدو في سيناء التي كانت مرصودة ومحددة من قبل، وهى عبارة عن مواقع بطاريات العدو ومراكز تجميع الاحتياطي التكتيكى للعدو، خلف مواقع خط بارليف الحصينة ثم مواقع خط بارليف الحصينة نفسها. كان لضرب هذه الأهداف أولا حكمة، وهى لشغل هذه الأهداف عن عمليات العبور، وإجبار أفراد العدو في المواقع الحصينة من خط بارليف على الاحتماء داخل مواقعهم في اطمئنان إلى قوة ومناعة حصونهم. تحت ستار مدفعيتنا، بدأ عبور الأفراد إلى شرق القناة داخل عربات مدرعة برمائية وزوارق على طول القناة من بورسعيد إلى السويس، وقبل أن تطأ أقدام رجالنا الضفة الشرقية كانت الانفجارات قد توالت في ردم الساتر الترابى الهائل الذي بناه العدو بطول القناة، وبدأت مجموعة إزالة الألغام التي رصدتها قوات الاستطلاع المصرية على الضفة الشرقية، ومجموعة أخرى استخدمت مياه القناة في إزالة الرمال من النقط التي فتحت في السد الترابي، ومجموعات أخرى تنصب المعابر فوق القناة. كما تولت مجموعات من قواتنا، التصدى لكل محاولة يقوم بها أفراد العدو المحصنون في مواقعهم ضد مجموعاتنا التي عبرت، في هذه المرحلة سقط أول شهدائنا في معركة التحرير، وكشاهد عيان رأيت أكثر من موقع من مواقع خط بارليف، ورأيت عمليات الإخلاء التي تمت بعد ساعات من تخطى قواتنا هذه المواقع، شاهدت إخلاء أكثر من 52 جثة للعدو من موقع واحد مقابل خمسة من شهدائنا. وفى موقع آخر وهو شمال القنطرة شرق، بعد سقوطه بساعات، رأيت عمليات إخلاء 40 جثة للعدو و10 من شهدائنا. وأضاف قبضايا في شهادته: كان هناك مجموعات تعمل على التثبيت والتمكين على الضفة الشرقية للقناة، ومجموعات أخرى تواصل فتح الثغرات في الأرض الملغمة، ومجموعات تشق الأرض لتفتح طريق المرور أمام قواتنا، ومجموعات أخرى تعد الأرض لاستقبال وتثبيت المعابر. وظهرت المعابر فوق القناة بفضل قواتنا ووحدات المهندسين التي أثبتت قدرة وكفاءة وبطولة نادرة فيما حققته من معجزات، فقد تم هذا العمل في 15 دقيقة، سبق إقامة هذه الكبارى التي تصل بين ضفتى القناة خطوات تمهيدية تحضيرية جرت بتنسيق وتجهيز وصل إلى حد المعجزة. وتوالت عمليات العبور فوق المعابر إلى سيناء، وتقدمت وحدات كاملة من سلاح المدرعات المصرى مندفعة إلى عمق سيناء، وتقدمت قوات المشاة الميكانيكية فوق المعابر الثابتة إلى الضفة الغربية، وتقدمت طوابير المدرعات تشق طريقها إلى سيناء. ويصف قبضايا مشهدا ذرفت له دموعه فيقول: أجمل ما رأيت وانشرح له صدرى هو خروج أحد المقاتلين من أفراد المجموعات الأولى فوق تبة مرتفعة ليحفر الأرض ببلطته الصغيرة، ويثبت العلم المصرى فوق التبة ويقف رافعا ذراعيه إلى السماء صائحا.. الله أكبر.. الله أكبر، ويردد الجميع وراءه النداء، وارتفعت آلاف الحناجر بصيحة واحدة (الله أكبر.. الله أكبر)، فلم أستطع أن أحبس دموعى أمام هذا المشهد المهيب. وفى آخر ضوء اليوم الأول 6 أكتوبر 73، قام العدو بأول هجماته المضادة الكبيرة، وكان هجومه عند الغروب قويا، قامت به الدبابات والمشاة الميكانيكية للعدو، وجاء الهجوم من أكثر من اتجاه في وقت واحد. لقد دفع العدو في هذا الهجوم بكل قوة توافرت له في المنطقة، على أمل أن ينجح في الهجوم المضاد ليستعيد عنصر المبادرة، لكن فشل الهجوم الإسرائيلى المضاد رغم كل ما توافر له من دعم، وبعد تدمير 60 من دبابات العدو المشاركة في الهجوم المضاد، ونتيجة زيادة خسائره في الأفراد، اضطرت قواته إلى الانسحاب، ولجأ عدد من أفراده إلى الهروب أو التسليم؛ لتأخذهم القوات المصرية أسرى وتنقلهم إلى القاهرة، وتعاود قواتنا تقدمها. وفى نفس الوقت، بدأ القتال على الجبهة السورية في الثانية ظهرا، عندما قامت قوات العدو بالاعتداء على المواقع الأمامية على طول خط وقف إطلاق النيران، وتصدت لها قوات المدفعية السورية حتى أن سوريا حررت بعض المواقع في جبل الشيخ، وتلت تلك العمليات عملية بحرية بدأتها زوارق العدو عند شاطئ اللاذقية، واشتبكت معها القوات البحرية السورية لمدة ساعتين، أسفرت عن تدمير 6 زوارق إسرائيلية بينها سفينة القيادة وطائرتان هليكوبتر وانسحبت بقية الزوارق. وواصلت القوات السورية زحفها في منطقة الجولان، حتى دمرت المستعمرة الإسرائيلية هناك. ويختتم مراسلنا الحربى وصف ما حدث في معركة العبور بقوله: تقدمت القوات المسلحة المصرية في سيناء على ثلاثة محاور.. المحور الشمالى على مقربة من ساحل المتوسط، الأوسط يتجه من قرب الإسماعيلية إلى وسط سيناء، أما المحور الجنوبى فيبدأ من شمال السويس مارا بمضيق متلا، لتعود إلى المواقع الحصينة التي تشكل خط بارليف، التي بقيت على الضفة الشرقية تعانى الانتظار اليائس، بعد أن أحاطت بها قواتنا وحاصرتها. لقد كان قرارا حكيما وذكيا اتخذته القوات المسلحة المصرية، عندما استمرت في الاندفاع إلى عمق سيناء، دون أن تنتظر سقوط كل تلك المواقع الحصينة. ومع مرور الساعات، توالت سقوط المواقع التي كانت لا تزال تنتظر نجدات العدو داخل المخابئ الحصينة في أعماق الأرض، إلى أن سقط آخر موقع منها عند منطقة السويس في اليوم التاسع للقتال. لقد كانت المفاجأة هي العنصر الحاسم للنصر في معركة العبور، فقد كان العدو الإسرائيلى يرتكن منذ وقت طويل، إلى استحالة عبور القوات المصرية للقناة، إضافة إلى اعتماد العدو الإسرائيلى على قوة خطه الدفاعى الذي يحميه الساتر الترابى بطول قناة السويس، كما كان التوقيت هو صاحب الدور الأعظم في تحقيق المفاجأة، بصرف النظر عن أن يوم العبور كان يصادف يوم العيد الكبير في إسرائيل، فإن اختيار ساعات الظهر وما بعد الظهر لعبور القناة، كان أمرا لا يتوقعه أحد على الإطلاق، فقد كانت شجاعة الخطة وسرعة العمليات، مع الدقة في التنفيذ، هي واحدة من عوامل النجاح الكبير الذي تحقق.