من المؤكد أن ابتسامة ساخرة كانت ستخرج منه عندما يكتشف أن وسائل الإعلام أخطأت في حساب عمره، قالت رحل عن 74 عاما، وما هي إلا ساعات قليلة وب«حسبة بسيطة»، اتضح أننا منحنا الرجل خمس سنوات على عمره.. هل كنا نحبه كل هذا الحب لنتحايل على الزمن في 1825 يوما نضيفها، في لحظة حب، لسنوات الطويلة. نور الشريف.. مات كما يموت الناس.. كان يجب أن يموت، الطبيعة تؤكد أنه كان يجب أن يموت.. المرض احتل جزءا من جسده.. منحه «وقتا ضائعا» ليودع الأحبة، وقد كان.. كان يجب أن يرحل؛ لأننا كنا في أشد الحاجة لأن نتذكره.. ندرك أننا نحبه كل هذا الحب. «سأقدم شخصية رسام الكاريكاتير الفلسطينى ناجى العلي.. شاء من شاء وأبى من أبى».. معارك «نور» كثيرة جدا، الغالبية تتذكرها.. تحتفظ بتفاصيلها في «كتاب الذكريات».. تعرف جيدا من الخائن.. من المسئول.. ومن الضحية، غير أن أزمته الشهيرة بعد إقدامه على إنتاج وأداء دور البطولة في فيلم «ناجى العلي» تعتبر الأشد قسوة، فالجميع إلا من رحم ربي، أعلنوا الحرب المقدسة على «نور».. كما سبق أن أعلنوها على «ناجي».. الخيانة كانت الاتهام المشترك بين البطل والبطل.. بين الرسام والممثل.. بين العاشق لوطنه.. والمحب لعروبته وقوميته، والغريب أن الجميع خرجوا من الباب الخلفى لذاكرة التاريخ، ولم يبق صامدا إلا «ناجى ونور». أزمة الفيلم، يمكن القول إنها كانت عابرة للقارات.. فالرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات، طار إلى القاهرة خصيصا لمنع عرض الفيلم، وعندما فشل حاول الاستعانة ب«خدمات مبارك»، الذي بدوره أخذ رأى مستشاره السياسي وقتها، الراحل أسامة الباز، حول إذا ما كان الفيلم يسيء إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وعندما أجابه «الباز» ب«لا.. قاطعة»، رفض «مبارك» منع الفيلم. دول الخليج بدورها أعلنت «مقاطعة نور»، مثلما سبق أن طاردت «ناجي»، أفلامه أصبحت «ممنوعة من العرض» هناك، هو شخصيا أصبح ضيفا غير مرغوب به على أي بقعة في الأراضى الخليجية، ليس هذا فحسب، لكنه وجد نفسه محاصرا ب«نيران صديقة».. صفحات وصفحات تخرج كل صباح، لتؤكد أمرا واحدا أن «نور الشريف» خائن.. يجب أن يحاكم بتهمة الخيانة العظمى؛ لأنه قرر تأدية وإنتاج فيلم عن شخص «شتم مصر»، متجاهلين أمرا وحيدا، وهو أن «ناجي» لم يتجاوز في حق أحد، لكنه كان معارضا وبشدة لموقف الرئيس الراحل محمد أنور السادات من «اتفاقية كامب ديفيد»، وهذا كان رأى «نور» أيضا. لندن كانت حاضرة في ذهن «نور» وقت الأزمة، مثلما احتوت «ناجي» وقت «المحنة»، لكنها قتلت الأخير، والأول لم يتخذ قرارا نهائيا بالهجرة إليها، فبعد أن تزايدت ضده حملات الهجوم غير المبررة، فكر جديا في الرحيل إليها، لكنه لم يتخذ قرار الهجرة، وتمسك ب«سياسة الهجوم خير وسيلة للدفاع»؛ حيث لم يترك فرصة واحدة تمر دون الإشارة إلى أنه «وطنى أكثر من كل مهاجميه»، واستمر في دفاعه عن «ناجي» والفيلم، حتى بعد انتهاء «أزمة التخوين»، ولعل ما كتبه بعدها بسنوات خير دليل؛ حيث كتب تحت عنوان «ناجى العلي.. فيلم للوطن والحرية»، قائلا: «ناجى العلي» لم يكن مجرد فيلم جاد في مسيرتي، كان دليلى الذي قادنى إلى مرحلة النضوج في زمن التردى السائد في معظم الإنتاج الفنى سواء على المستوى السينمائى أو المسرحى أو الموسيقى أو حتى التليفزيوني، كان هو البديل المطلوب للأفلام المبتذلة أو أفلام المقاولات التي تتعمد الابتعاد عن صلب الهموم الكبرى والموضوعات الجوهرية، وتعمل على طمس المشكلات الإنسانية والقومية والوطنية، من خلال طرحها لموضوعات سطحية تخاطب الغرائز وليس العقول والقلوب. وعن أيام الأزمة، قال «الشريف»: «فرحتنا كادت تختنق على يد الهجوم العنيف الذي قادته إحدى الصحف المصرية ضد الفيلم، وضد شخصية ناجى العلي، رسام الكاريكاتير الفلسطينى الذي عاش عمره كله محاربًا ومعتركًا بريشته ضد الاحتلال والاستسلام والتفكك العربي، صورنا الهجوم، نحن فريق الفيلم، كما لو كنا مجموعة من الخونة صنعوا فيلمًا خصيصًا ضد مصر، حتى أنهم كتبوا وقالوا نور الشريف يقوم ببطولة فيلم الرجل الذي «شتم» مصر في رسوماته، والحقيقة أن هذا الاتهام باطل، ف«ناجى العلي» كان يعشق مصر لأبعد الحدود، وهذا ما توضحه رسوماته، لكنه هاجم السادات عند زيارته للقدس، وهاجم اتفاقية كامب ديفيد.. ناجى العلى لم «يشتم» مصر، ولكنه عبر عن رأيه في رفضه ل«كامب ديفيد»، وهذا كان موقف كل العرب آنذاك ومعظم المثقفين المصريين.. سار الهجوم على الفيلم وفق سيناريو محبوك، وربما أفلح في التأثير على بعض البسطاء الذين لا يعرفون ناجى العلي، ولم يدم هذا طويلًا، فالغشاوة سرعان ما تزول، ويكفينى الاستقبال الحار الذي استُقبلت به في بعض الجامعات المصرية والجهات الأخرى؛ حيث تم عرض الفيلم، وعقدت ندوات مفتوحة شارك فيها الآلاف ممن لم يتأثروا بهذا الهجوم». رصاصة في «رأس ناجي».. طرحته أرضا على أحد أرصفة «لندن».. بعثرت رسوماته على «الأسفلت الإنجليزي»، رصاصة كشفت «عورة القادة»، وأكدت أن السياسة لا تعترف إلا ب«الاغتيال».. الأنظمة لا تتقن إلا أبجديات «لغة الدم»، والحرية ما هي إلا حلم ليلة صيف، الحرية التي قال عنها «نور» في المقال ذاته: «ناجى العلي» من أهم أفلامى وسأظل أفخر به دائمًا، بل سأظل أحلم بمواصلة مشوارى على نفس الدرب، وتقديم شخصيات أخرى تشبه ناجى العلي، وتاريخنا العربى زاخر بها، ولن يرتاح بالى إلا إذا فعلتها.