على كوبرى صغير يصل بين دفتى الترعة الرئيسية تستطيع أن ترى مشهدًا لا يمكن لفنان أن يرسم ملامحه بريشته مهما بلغ من عبقرية التعبير، تحت أقدامك تمضى المياه بأمواج تناسب ترعة صغيرة، وعلى جانبيها خطوط الزراعات تشكل لوحة فنية وضع تفاصيلها فلاح الفراعنة القديم، وعلى مسافة غير صغيرة تتراصّ البيوت الريفية البسيطة، أعلاها يبدو فى طابقين من الطوب اللبن، وخلف القرية يقف الجبل الشاهق بجلال لا يضاهيه إلا جلال الليل البهيم فى قرية تسكن بسكون الليل لا يغلفها إلا أصوات الكلاب غير الضالة، فى قرى الريف تبدو الكلاب أصحاب بلد وليست ضالة، لا تطارد إلا سكون الصمت المطبق بعد رحيل الشمس بساعات قليلة. كانت رحلتنا فى إجازة منتصف العام بعد منتصف ثمانينيات القرن الماضى بعام، عندما كنا بالفرقة الثالثة بكلية الإعلام حينما دعانا الصديق عبد الله عبد الموجود، المخرج التليفزيونى المعروف، لأسبوع نقضيه بين الأهل والأصدقاء، والجلاوية هى تلك القرية الساكنة بين أحضان الجبل الشاهق من مركز ساقلتة بمحافظة سوهاج، يأتى الليل وتبدأ معه سهرتنا بين شباب يحلم بغد أكثر إشراقا رغم حالات الطرد الممنهج من صعيد مصر إلى عاصمتها المتخمة بكل صنوف الخدمات والإبهار، كانت القاهرة هى ندّاهة السوهاجية؛ فيها يعيشون، يعملون ويسكنون، وبين سنوات العمر الضائع تتحول القرى هناك إلى مزار فى الأعياد، ولا تنتهى الزيارات إلا برحلة النهاية عندما يموت السوهاجى، وعلى شاكلته كل صعيدى ليوصى أهله بالدفن، تحول الصعيد إلى مدفن أو إلى لقاء أخير يضم الجسد بعد مغادرة الروح. كان الليل يجمعنا بعدد غير قليل من طلاب الجامعات والخريجين والفلاحين والمستشارين، حيث تخصصت الجلاوية فى إنتاج عدد غير قليل من رجال القضاء، فى القاهرة مستشارون، وفى الجلاوية يعودون إلى جذورهم، يرتدون الجلباب البلدى ويجلسون من الناس حسب الترتيب فى القبيلة أو العائلة، وهنا كبير العائلة هو المستشار، وهو الرئيس وهو الكبير لا كبير غيره. كانت الجلاوية قد أقبلت على التعليم بشكل جنونى، ونقلت صراع القبائل إلى فصول العلم، فى كل بيت طابور من الطلاب. وكانت الجلاوية فتحًا كبيرًا فى رحلة أضاءت لى بعض جنبات الحياة المظلمة، فالقرية تبدو وكأنها مستقلة بحكم موقعها، لا حكومة هنا ولا شرطة، كبار القوم هم كل شىء فى الحياة، مستقلون بطبيعتهم، يزحفون على الجبل نهارًا ويزحف هو عليهم ليلا فى ظاهرة التصحر، الحياة كانت سجالًا بين جبل وإرادة. مضت سنوات تأكلها سنوات، والجلاوية ومثيلاتها ثائرات بالعلم والعمل والهجرة والعودة فى أكفان، حتى قامت ثورة الخامس والعشرين من يناير، هدأ الصعيد أول ما هدأ ومنح أصواته بالجملة دون القطاعى لمن تصور أنه الملاذ، فالدين هنا ليس أفيونًا، وإنما أسلوب حياة، وصل التيار الإسلامى ومضى فى طريقه إلى حيث تكفين الثورة والقضاء عليها، ثارت الإسكندرية وثارت بورسعيد، وثارت مدن القناة ومعها الغربية ودمياط، وظلت الجلاوية ساكنة حتى تصورناها كما تصورها الإخوان؛ صامتة، موالية، ساكتة. وظننت مثل غيرى أن ما رأيته فى ثمانينيات القرن الماضى كذب وإفك مبين، وأن الصعيد الثائر دوما فى زمن السكوت قد آن أوان سكوته وخضوعه، إلا أن صديقى عبد الله كان يحكى لنا قصصًا عن أنّات الجلاوية وعن صمودها وثورتها، وكنا نتصوره يصنع مجدًا لا وجود له، حتى اختار الدكتور محمد مرسى زيارة سوهاج فى إشارة واضحة منه ومن تياره بأن فى مصر تابعين وأتباعًا يؤيدونه وجماعته على طول الخط. جهزوا لزيارة السلطان ضِعف ما كان مبارك يجهزه، حراسات وأسلحة، جنود وضباط، مصفقون ومصفقات، شوارع ترصف وأخرى تتزين بنباتات الزينة، ومدارس تلون بالأبيض، وأخرى تمسح عن أسوارها إرهاق السنين. دخل السلطان فى جماعة من أتباعه وعشيرته إلى الاستاد، وظن أنه يستطيع تكرار ذلك المشهد الهزلى فى استاد القاهرة، ولم يكن يدرى أن كل جلاويات سوهاج قد جهزت له ما لا يسر، اقتحموا الاستاد وثاروا، دخلوا إلى عقر داره، حيث دارهم، ومضى السلطان يبحث لنفسه عن ملاذ آمن من هبّة الجماهير، زلزلوا المكان وصنعوا ثورة جديدة تليق بنضالهم وجهادهم وصبرهم. عاد مرسى وأصوات السوهاجية تطارده فى يقظته، وفى غفوته التى طالت، عاد مرسى إلى قصره المحاط بثوار القاهرة لا يعرف ماذا يفعل!! عاد مرسى وكل أمنياته أن يغمض عينيه ليجد السنوات الأربع وقد مضت، كم تمنى أن يعود مواطنًا كما كان، عاد إلى قصره دون أن يعود إلى الحق، فالحق لا يزال هناك يسكن كل بيوت الجلاوية!! القرموطى فى محكمة المعيز الإعلامى المعروف بعفويته "جابر القرموطى" قفز إلى أعلى المشاهدات فى فضائيات الأسبوع الماضى، عندما رد على ابن الريس مرسى متهمًا إياه بأننا إن كنا خراف فابن الريس معزة، التشبيه على عفويته وصل إلى الناس، بحثوا عنه على جوجل وشاهدوه مئات الآلاف من المرات. لم يمض التشبيه هكذا كما تصور صديقنا "جابر القرموطى"، خاصة وأننا قد وصلنى بيان صادر عن جماعة معيز مصر يحذرون فيه القرموطى من فعلته، وينبهون كل الإعلاميين المصريين إلى أنهم لن يتركوا الأمر يمر مرور الكرام باعتباره إهانة بالغة لعالمهم ولجماعتهم - حسب نص بيانهم - وقالوا فى البيان الذى وزع على نطاق كبير فى حظائر مصر: إن الماعز لا يعرفون السب والقذف، وإن تشبيه ابن مرسى اللعّان والشتّام بالماعز إنما يمثل إساءة بالغة لهم، وينال من كرامتهم بين ذويهم وأهليهم، وأن ما فعله القرموطى هو جريمة سب مكتملة الأركان. وقالت واحدة من المعيز الموقعات على البيان: إن إساءة القرموطى بتشبيه ابن مرسى بنا هو إساءة متعمدة، حيث لا مجال للمقارنة بين عالم الماعز بما له من أيادٍ بيضاء على مصر والمصريين، وبين عالم الإخوان وما جلبه على البلاد من خراب ودمار وانقسام، وأشارت معزة فى تغريدة لها على شبكة البرسيم البحرية، إلى أن الماعز لا يعرفون الكذب، وأن المعزة التى لا تُدِرّ لبنًا للبشر إنما تنتج خيرًا آخر أقله أنها لا تكذب، فى حين يقدم عالم الإخوان عكس ما يقدمه الماعز. وقالت جبهة "معيز أحرار لا إخوان ولا أشرار" على صفحتها الرسمية بغيط الحاج محمود: إنها ستلجأ إلى القضاء، وستطالب بتعويض عما أصاب عالمهم من أضرار، حيث يوحى التشبيه بأن المعيز هم أقل درجة من ابن مرسى وجماعته، فى حين يثبت التاريخ عكس ذلك؛ فمعيز مصر إنما مارسوا الثورة قبل الإخوان، وفى الوقت الذى كان يجلس فيه مرشدهم ونائب مرشدهم وعلية القوم منهم مع رجال النظام السابق كنا نحن عالم المعيز نمارس المأمأة فى كل حقول مصر تضامنًا مع ثورة البشر فى ميادين مصر، ولقد آثرنا ألا تكون الحقول غير ممثلة فى الثورة المباركة!! وأصدر ائتلاف شباب المعيز بيانًا أكد فيه على رفضه الإساءة، ودعا الإعلاميين والصحفيين إلى التروى قبل إصدار الأحكام دون تدبر، وقال البيان: "تأكلون لحمنا وتشربون لبننا، وتصنعون الفرو من جلودنا، فماذا وجدتم فى الإخوان؟ هل يُدِرّون لبنًا؟ هل يقدمون لكم لحمًا؟ هل تصلح جلودهم - رغم قول رئيسهم إن جلودهم " تخينة "- لتكون فراء لكم أو حتى نعالًا"!! ونوّه البيان بضرورة اعتذار جابر القرموطى، والتعهد بعدم تكرار ذلك، على أن يكون الاعتذار فى صحيفتين يوميتين على الأقل، حتى يغفر له عالم المعيز جريمته النكراء!! ولكم فى الباب الخلفى حياة لم يعد أمام الثوار إلا البحث عن الأبواب الخلفية، فمنها يهرب الإخوان، من قبل هرب محمد مرسى عندما حاصره الثوار وقفزوا داخل قصره المنيف، هرب مرسى وبعدها بأيام خرج من الباب الأمامى بعد أن اطمأن لقتل جماعة من الثوار، وواقعة هروب مرسى من الباب الخلفى أكثر من أن تحصى، وأيضا هرب من قبل رئيس مجلس الشعب الدكتور سعد الكتاتنى من الباب الخلفى بعد أن حاصروا مجلسه المهيب. ولم ينجُ المستشار طلعت عبد الله، نائب الإخوان العام، بشكل مغاير، حيث كانت آخر وقائع هروبه من الباب الخلفى منذ أيام عندما حاصرته قوى الألتراس، هرب أيضًا من الباب الخلفى، ويقولون: إن قوات أمن الوزير محمد إبراهيم لا تقوم على تأمين الأبواب الأمامية، بل تبحث عن الأبواب الخلفية لتأمين عمليات الهروب، ويجدون أنفسهم فى مأزق إذا ما وجدوا أن البناية ليس بها باب خلفى. ويقول أحد الخبثاء: إن الجماعة نبهت على قياداتها وعلى أعضائها أن يسكنوا بيوتًا لها أبواب خلفية لتأمين عمليات الهروب، خاصة وأن الثوار لم يتنبهوا بعد إلى هذا المنقذ الآمن، وكله تحت شعار "ولكم فى الأبواب الخلفية حياة يا أيها الإخوان"، والأبواب الخلفية ليست جديدة على جماعتهم، فمنها كانوا يهربون أيام مبارك، ومنها هربوا أيام السادات، وفيها كان ملاذهم الآمن أيام عبد الناصر، ولا تزال تشكل الأساس فى عمليات هروبهم من الشعب الذى يحاصرهم كل يوم فى موقع جديد لن يكون آخرها استاد سوهاج فى الموقعة التاريخية التى وضعت صعيد مصر فى موضعه الحقيقى من الثورة. أذكر ذات مرة أن زملائى أشاروا علىّ أن أهرب من مكان خلفى عندما حاصرت قوات أمن مبارك جريدة الأحرار فى شارع الجمهورية، غير أنى وبعصبية الشباب فضلت مواجهة الموقف، فلم يكن إلا أن نلت علقة ساخنة، وسحلت على الأرض أيام أن كان السحل عملة نادرة، وقبل أن يصبح موضة عصرية فى عهد مرسى، وأيامها قلت: "الرجال لا يهربون من أبواب خلفية"، وبعد العلقة الساخنة وبعد عودتى إلى عملى وضعت خططًا بديلة للهروب لم يكن منها الباب الخلفى. والإخوان يعشقون الأبواب الخلفية، الأبواب الخلفية لحصد الأصوات، فالسكر والزيت والأرز أبواب خلفية، والعزف على "قال الله وقال الرسول" أبواب خلفية، والكذب باسم أبو بكر الصديق باب خلفى، والحديث باسم عمر بن الخطاب باب خلفى، ونقض الوعود والعهود أبواب خلفية، وإفقار الناس لتسهيل عملية حكمهم باب خلفى، وبيع الأوطان جهنم خلفية. فى بريطانيا حبسوا الوزير لكذبه.. وفى مصر اخترناه رئيسًا حكم القضاء البريطانى بالسجن على وزير الطاقة السابق "كريس هيون" ثمانية أشهر بتهمة تضليل العدالة، وذلك عندما قاد سيارته عام 2003 م بسرعة تفوق المقرر، فاعترفت زوجته فى ذلك الوقت بأنها من كانت تقود السيارة حماية لزوجها، حتى لا يحرم من قيادة سيارته كما تقضى القوانين الإنجليزية. وبعد أن وقع الوزير السابق فى غرام أخرى غير زوجته اعترفت بالحقيقة، وبمواجهته على غرار المتهمين المصريين أمام آلة التعذيب فى أقسام الشرطة انهار واعترف بجريمته، فقضت المحكمة بحبسه ثمانية أشهر لأنه كذب . إذن تهمة الكذب فى عرف البريطانيين يقابلها السجن، واختزالا "من يكذب يدخل السجن، وفى مصر من يكذب يصبح رئيسًا، ومن يمعن فى الكذب يتحول إلى مرسى، وليس بالضرورة أن يكون كل كذاب مرسى، أو أن يكون كل مرسى كذابًا، فقد قابلت فى حياتى كثيرين يحملون نفس الاسم، ولكنهم لا يكذبون، وإذا "اتزنقوا" وكذبوا فإنهم لم يصلوا إلى ما وصل إليه الريس مرسى الذى ضبط وهو يكذب بالصوت والصورة ولم يحاكمه أحد. قد يقول قائل: إن الوزير البريطانى ضلل العدالة، ونقول: إن مرسى ضلل الشعب عندما قال لنا إنه سيكون رئيسًا لكل المصريين، وأصبح رئيسًا لأهله وعشيرته وأولاد جماعته، وضلل الشعب عندما قال لنا: إنه سيستقيل إذا ما طلب منه ذلك، وخرجت الجماهير تنادى "ارحل ارحل"، فكان رده "على جثتى"، مع الاعتذار للفنان أحمد حلمى، وقال: إنه سيكشف عن قتلة أبنائنا فى رفح خلال ساعات، فمضت الشهور دون أن يفعل ذلك. وقد يقول آخر: إن الوزير البريطانى قاد سيارته بسرعة تفوق المقرر مما يعرضه والآخرين للخطر، ولهؤلاء نقول: إن مرسى يقود البلاد إلى الهاوية، يسقط بها من أعلى جبل المقطم، ويهدد أمن البلاد والعباد بالخطر الأكبر، بل إنه يهدد الأمن القومى للبلاد بزرع الفتن والقلاقل والوقيعة بين فصائل المجتمع. فى بريطانيا حبسوا من كذب على العدالة، وفى مصر نكرم من يكذب على الله وعلى الشعب، ونحميه ونعين له الحراسات، ونجرى معه الحوارات، وفى بريطانيا يقولون على الوزير بعد حبسه "السجين"، ونحن نقول على من يكذب علينا ليل نهار "الزعيم".. كذابهم سجين، وكذابنا قيصر، وهذا هو الفرق بين الدولة المدنية ودولة محمد مرسى العياط!!