لا يُذكر الشعر العربى ورموزه، دون ذكر شاعر العربية الكبير «ابن الرومى»، الذى أبدعت قريحته الشعرية في كل غرض ولون؛ فبرع في الوصف والفخر والمدح والنسيب والرثاء، حتى فاق كثيرين من أقرانه ومعاصريه، بحسب الباحثين والدارسين المُنصفين فى هذا المجال. وُلد «على بن العباس بن جريج»، المعروف ب»ابن الرومي»، فى بغداد عام 836 من الميلاد، وكان جده «جريج» من أصل رومي، وكان مولى لعبد الله بن عيسى بن جعفر بن المنصور العباسي، أما أمه فكانت فارسية، وهو ما جعله في فخره يدّعي نسبه إلى ملوكهم والساسانيين حيثما يفتخر بأصوله من الفرس، كما كان يفتخر بنسبه الرومي، وينسب نفسه إلى اليونان كثيرا في شعره. «ابن الرومي»، لم يتخل عن الفخر بنسبه وأصله وعلمه، بعد كل هذه القرون التى أعقبت وفاته، حتى أنه أصر على أن يؤكد لى، فى مستهل لقائنا، وقبل أن أخوض غمار الحوار معه، أنه يختلف عن غيره من شعراء عصره، لأنه كان شغوفا بالعلم ونهما بالمعرفة منذ حداثة سنه. قلت له: سيدى،هوّن على نفسك، فمثلى يعلم قدرك، فلا يعرف أقدار الرجال إلا الرجال، ولا ينكرها سوى اللئام والضعاف، الذين يلمزون الناس بالباطل. ها هو «ابن الرومى»، كما هو، لم يتغير، كما عرفته من سيرته، فلا يزال على عهده بملابس عصره، لم يستبدلها بما هو أحدث، كما فعل الموتى من ندمائه ورفاقه، الذين أكدوا لى أنهم حريصون على مواكبة العصر، غير أن «ابن الرومى» لا يزال على حاله فى ملبسه ومقتنياته، فالكتب التى يجلس بينها قديمة ومتهالكة، رافضا الاستعانة بأجهزة الكمبيوتر الحديثة ذات التقنيات المتقدمة، ليحفظها عليها، غير أنى فى نهاية حوارنا، تمكنتُ من إقناعه بتجربة جهاز كمبيوتر محمول «لاب توب»، وإن راق له، فسوف أتوسط له فى شراء «لاب توب»، ووعدته بأن أكون «ضامنا» له، إن اضطر إلى شرائه بالتقسيط. لم يدع «ابن الرومى» الفرصة لى، لنبدأ الحوار بداية طبيعية، إذ وجدتُه لا يزال غاضبا من رأى عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين فى شعره، قلتُ:كيف، وقد كان الرجل يعتبرك مع «أبى تمام» من مدرسة واحدة، «هي مدرسة المعاني»؟ فانتفض «ابن الرومى» قائلا: أنت هكذا كمن يقرأ الآية القرآنية:»ويل للمصلين» دون إكمالها، قلت: لماذا؟ أجاب:لأن «بلدياتك» طه حسين، زاد على ذلك بقوله: «لكنهما-أى أنا وأبو تمام- يختلفان في طريقة معالجتها، فأبو تمام يغوص في المعنى، حتى إذا تأكد أنه فُهم، تحوّل منه إلى غيره، أما «ابن الرومي»، فيقلب المعنى على جميع الوجوه، حتى يأتي فيه بجميع الصور، وقال «عميدكم» كلاما يُفهم منه، أن طريقتى تلك، تدل على استخفاف بعقليات القراء والمستمعين، بعكس طريقة أبي تمام التي تنبع من احترامه لعقلياتهم». قلتُ:لا يجوز لك أن تعاتبنى على أمر ليس لى فيه يد، و«طه حسين»، يتحمل مسئولية رأيه، كما أن مخالفة رأيه لرأيك، ليس مدعاة لأن تغضب منه، ثم ينسحب غضبك منه إلىّ، أم أنك ممن يقمعون الحريات، ولا يريدون إلا سماع من يتغزلون فى ديكتاتوريتهم وحمقهم؟. فنظر «ابن الرومى» إلىّ شذرا، ثم ابتسم ابتسامة صفراء، استدعى بعدها مهارته الفائقة فى السخرية، ليسألنى بلهجة عامية: «ليه، حد قال لك إن أنا من الإخوان المسلمين؟!»، فضحكنا بصوت عال، قبل أن يقطع هذا الضحك، بعبارات قاطعة نصها:» الشعر أولاً وأخيراً يعتمد على العاطفة اعتماداً كبيراً، فتقليب المعنى وتصويره من عدة وجوه، مدعاة إلى تصويره في أذهان المتلقين تصويراً، مثالياً وكأنه صورة حية مباشرة لما يعانيه الشاعر من حب أو ألم». قلتُ: أنا أدرك كل هذا، وفى أعمالك أدلة كثيرة على عمق موهبتك وثراء تجربتك الشعرية، ولا أدل على ذلك من رثائك لابنك «محمد»، فكم تحس النفس حينما تطالع أبيات رثائك بالألم وتجهش العين بالبكاء! بدا لى أنى أسأتُ التقدير، عندما ذكرتُه بابنه، فاعتذرتُ منه، فتقبل اعتذارى، ولم يتمكن من أن يحجب دمعتين انسالتا من مقلتيه..ثم أردف قائلا: على حين شمتُ الخير من لماحته وآنستُ من أفعاله آية الرشد كأني ما استمتعتُ منك بنظرة ولا قبلة أحلى مذاقا من الشهد كأني ما استمتعتُ منك بضمة ولا شمة في ملعب لك أو مهد دقّت كلمات "ابن الرومى" عن صغيره، الذى ودع الحياة مبكرا، قلبى بعنف، حتى كدتُ أشاطره البكاء، غير أنى قررت تجاوز الحديث فيما يجدد آلامه وأحزانه، وأردتُ أن أغير دفة الموضوع تماما، فذكرتُه ببراعته فى الهجاء، وكيف كان عنيفا فى هجاء خصومه، فالتفت "ابن الرومى إلىّ، ولم يبدُ مسرورا كما توهمتُ، "، ثم قال:والله..إنى ظُلمتُ كثيرا لتصنيفى ضمن شعراء الهجاء، قلتُ:كيف، وقد احتل الهجاء نحو ثلث ديوانك، وكنت يا "ابن الرومى" قاسيًا في هجائك، تتعرض للأعراض؟ تبسم "ابن الرومى" قليلا، ثم أردف:إذن، أحيلك فى هذا السياق إلى ما قاله "بلدياتك" عباس العقاد، وهو أن من هجوتُهم، أكثرهم لصوص، لا ينقضي على أحدهم في المنصب أشهر أو سنوات، حتى يعمر بيته بالمنهوب والمسلوب من أرزاق الرعية الضعاف. لم أستسلم لدفاع "ابن الرومي" عن نفسه، فذكرتُه بأبيات له تقول: آليت أهجو كريما عند نوبته ولا لئيما وإن أكدى وإن شتما وقوله: ولستُ بهجّاء ولكن شهادة لدي أؤدي حقها غير آفك كثيرون من عباقرة العرب الذى حاورتُهم فى "عودة الروح"، وجدتُ أحوالهم وقد تغيرت، فهذا كفيف صار بصيرا، وذاك بصير غدا أعمى، وثالث كان ضعيفا، فصار قويا، ورابع كان صحيحا فأصبح مريضا، وخامس كان عليلا، فبدا عفيا، فالموت، كما الحياة، بيد الله، يعز فيهما أقواما، ويذل آخرين، إلا أن "ابن الرومى"، وجدتُه على حاله، من ضآلة الجسد، ودمامة الوجه. كان "ابن الرومى"، ولايزال، دميم الوجه، قبيح الملامح، تكاد العين تقتحمه اقتحاما، فلا ينبئ مظهره عن حقيقة جوهره المتقد وروحه الوثابة وشاعريته الفذة، ومع ذلك فقد كان مدركًا لتلك العبقرية المنفردة والشاعرية المتوهجة التي حباه الله بها، فكان شديد الاعتداد بنفسه،عظيم الثقة بقدراته وفنه، وقد يتخذ من قبح مظهره ودمامة ملامحه مادة للدعابة والسخرية من نفسه، فيقول متندراً على نفسه في خفة روح وسخرية لاذعة: شغفتُ بالخدر الحسان وما يصلح وجهي إلا لذي ورع كي يعبد الله في الفلاة ولا يشهد فيها مساجد الجمع ذكرتُه بهذين البيتين، فضحك كثيرا، وتابع: لعل فيهما ما يؤكد أنى كنتُ منصفا فى الهجاء، حتى أنى لم أرحم نفسى، عندما وجدتها تستحق الهجاء! لم يكن من اللياقة –بطبيعة الحال- أن أسأل «ابن الرومى» عن السر فى أن الله أبقاه على حاله، حتى بعد رحيله، «فكل لبيب بالإشارة يفهم»، فتداركتُ هذا الأمر سريعا، لأتوقف معه عند قضية مهمة، لمستها فى سيرة الرجل وتاريخه، وهى «حب الوطن والانتماء إليه والدفاع عن ترابه»، لاسيما بعدما صارت مصر تحكمها جماعة منحلة، يزعم مؤسسها أنه «لا وطن فى الإسلام»، ولا تمانع قياداتها من أن يحكمنا ماليزى أو تركى! سألتُ ل»ابن الرومى»:ما تقول فيمن يقولون:» لا وطن فى الإسلام»؟ فأجاب الرجل من فوره :هم قوم من الحمقى، لا شك فى ذلك! ثم ذكرنى بأبيات له: ولي وطن آليت ألا أبيعه وألا أرى غيري له الدهر مالكا عمرتُ به شرخ الشباب مُنعما بصحبة قوم أصبحوا في ظلالكا وحبب أوطان الرجال إليهم مآرب قضاها الشباب هنالكا قلتُ: لماذا أخذ عليك النقاد أنك كنت متشائما، تعيش قلقا نفسيا رهيبا حتى جاء عليك زمن، لزمت دارك؟ امتعض «ابن الرومى» من كلامى هذه المرة أيضا، ثم ما لبث أن عقّب بقوله: «لقد ظُلمونى كثيراً عندما صُوّرنى إنسانا متشائما متطيرا، أعيش قلقاً نفسياً رهيباً ، حتى أنهم وضعوا لى القصص الملفقة، آه..والله..ملفقة ، ثم صمت قليلا، وبعدها أردف قائلا: «بصراحة..لا أنفي التشاؤم والقلق عن نفسى، ولكن ليس إلى الدرجة التي وضعوها لى، ولعل الذي غلف بعض جوانب حياتى باليأس، ما مررتُ به من أحداث عظيمة لو مرت بآخر لهدت قواه ومنها: موت أمى و زوجتى وأخي وثلاثة من أبنائى»! قلتُ:دعنى أسألك سؤالا مهما من وجهة نظرى، يا «ابن الرومى»، هو: لماذا تعرضت تجربتك الشعرية-رغم ثرائها وروعتها- إلى الإهمال؟ أجابنى وقد بدا متحسرا:ليس أقسى على نفس الحر، من التعرض للظلم، فإن سياطه تجعل قلبه ينزف ألما، وباعتقادى، فإن هذا الإهمال الذى تعرضتُ له من جانب من تسميهم «نقادا»، يمكن رده إلى عدة وجوه منها: أنى لستُ عربي الأصل في وقت كانت الشعوبية تسيطر على أجواء عصر الدولة العباسية، فضلا عن أنى لم أكن ميّالا إلى الخلفاء والأمراء والولاة للتزلف وكسب الهدايا والهبات، كما كنتُ ذا مزاج متقلب، بسبب ظروف حياتى، أضف إلى ذلك: طريقتى الشعرية في استقصاء المعاني التي كانت تعتبر حديثة في عصرى ولم يتعود عليها أبناء جيلى من الشعراء والأدباء والنقاد. بصراحة..لم ترق لى دفوع «ابن الرومى»، خاصة فيما يتعلق، بعدم تقربه للحكام، فله فى ذلك قصص مشهورة، لا يمكن إنكارها، من بينها علاقته ب»محمد بن عبدالله بن طاهر»، حامى بغداد، ولم أشأ إحراجه، فالشعراء غالبا لا يقولون الصدق، ألا ترى أنهم فى كل واد يهيمون، ويقولون ما لا يفعلون؟! قلت:هل متّ بالسم حقا يا «ابن الرومى»؟ أجابنى: ربما كان السم أحد أسباب رحيلى، غير أن الأعمار بيد الله، ولكل أجل كتاب! قلت:لا شك، غير أنى أريد أن أسمع قصة تسممك منك أنت يا «ابن الرومى»، لا سيما أن فيها على سوداويتها ما يضحك.. فأجابنى: فى ليلة ال13 من يوليو، عام 896، وكنت قد بلغت من العمر ستين عاما، كنتُ فى ضيافة "القاسم بن عبيد الله"، الذى أمر خادمه بأن يدسّ لى السُمّ في الطعام، فلما أحسستُ بالسم في بطنى نهضتُ مسرعا، فقال لى القاسم: إلى أين؟ فأجبتُه إلى حيث أرسلتني، فقال لى متهكما: سلّم على والدي عبيد الله، الذى كان قد مات، فأجبته: ما طريقي إلى النار! قلتُ: إذن هل وجدت طريقك إلى الجنة؟ فأجابنى: لم أعرف بعد، وإذا التقينا يوم القيامة، فسوف أخبرك! قلتُ: لماذا تصر على القراءة والمطالعة بالطريقة القديمة، ورفاقك من الموتى، يقتنون أجهزة الكمبيوتر، على اختلاف أنواعها، صغيرها وكبيرها، ففى ذلك تيسير عليك، وتلك الكتب القديمة البالية، يمكن تحميلها، على جهاز كمبيوتر صغير الحجم، "لاب توب أو آى باد"، يظل معك فى أى مكان تذهب إليه، ويقيك عناء البحث والتنقيب، فى تلك الكتب، التى تعذبها معك، طوال هذه السنين؟ بدا "ابن الرومى"، وقد اقتنع بكلامى، لا سيما أنى شرحتُه عمليا على اللاب توب الخاص بى، فسألنى:وكيف السبيل إلى الحصول عليه، وأنا رجل معدوم المال؟ قلتُ:لا عليك، سوف أساعدك، من خلال ضمانى لك عند شركة تبيع تلك الأجهزة بالتقسيط، فهل معك مقدم صغير، ندفعه؟ قال:ليس معى شيء! قلتُ:لا عليك سوف أدفعه أنا، فدعا لى بخير، فشكرتُه! لم أشأ أن أفوت تلك اللحظة من رضا "ابن الرومى" علىّ، فسألته:ماذا عساه أن يفعل، لو أن الله أحياه يوما أو بعض يوم؟ تبين "ابن الرومى" مقصدى-أو هكذا ظن-فقال:سوف أهجو جماعة الإخوان المسلمين، هجاء عنيفا، تستحقه! قلتُ:ولماذا؟ أجاب:لأنهم جديرون بذلك! قلتُ:وماذا عساك أن تفعل إن غازلوك بمنصب وزارى، كأن يعينونك وزيرا للثقافة مثلا؟ فتبسم ضاحكا من قولى، ثم أردف:حتما سوف أمدحهم، ثم أطلق ضحكة مدوية.