ربما لم يعرف تاريخ الشعر العربي في كل عصوره شاعرا سليط اللسان مثل الحطيئة, فقد اشتهر الحطيئة بالهجاء المقذع لكل من حوله, حتي كان الناس يتجنبونه اتقاء لسانه. ومنهم من حاول أن يشتري سكوته عنه فلم يفلح, ووصل به الأمر أنه هجا أباه وأمه بل كان أول شاعر يهجو نفسه فقال عندما نظر في المرآة فرأي وجهه: أبت شفتاي اليوم إلا تكلما بشر فما أدري لمن أنا قائله أري لي وجها شوه الله خلقه فقبح من وجه وقبح حامله والحطيئة كان شاعرا مخضرما عاش في الجاهلية والإسلام وكان من الذين ارتدوا رافضين خلافة الصحابي الجليل أبي بكر الصديق, ولم يقتصر موقفه علي الرفض فقط, بل هجا الصديق وحرض قومه عليه, ولكن عندما استتب الأمر للخليفة العظيم, لم يصدر منه أي رد فعل تجاه الحطيئة ولا حاسبه ولاعاتبه علي ما قال فيه بهجائه الذي تطاول به عليه وسخر من مقامه واسمه. فلم تذكر لنا أي من المصادر التاريخية التي روت هذا النبأ أن الشاعر جرول بن أوس العبسي الشهير بالحطيئة قد تعرض لأي أذي يذكر, مع أنه تطاول علي رجل من أجل صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم وثاني اثنين إذ هما في الغار!. ومضت خلافة الصديق وجاء بعده الفاروق والحطيئة لايزال علي عهده في الهجاء المقذع حتي هجا الصحابي الجليل الزبرقان بن بدر في قصيدة جاء فيها: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي فأسرع الزبرقان يشكوه إلي الفاروق الذي لم يجد عيبا ظاهرا في القصيدة وخصوصا هذا البيت, لكنه استدعي حسان بن ثابت شاعر الرسول ليسأله, فلم يحكم الفاروق برأيه في تقييم شعر الحطيئة وهو ليس لديه الخبرة الكافية بفنون الشعر, فالحطيئة علي ما فيه من سلاطة لسان كان واحدا من أكبر شعراء العرب. فما كان استدعاء عمر لحسان, إلا لخبرته في فنون الشعر, فأقر حسان بأن هجاء الحطيئة قد جاوز الحد في هذا البيت وأنه يحمل إهانة شديدة خاصة في البيت السابق الذي ينفي عن الزبرقان أي استعداد لأعمال الخير. وكان لابد لعمر أن يتخذ موقفا حاسما ضد الحطيئة, فليس لكونه شاعرا يعطي له الحق بأن يستبيح الناس ويطعن فيهم في بيئة عربية تجعل الكلمة التي تمس كرامة الإنسان مساوية للموت, فعاقب الفاروق الحطيئة بالحبس حتي يكف عن ذم الناس خاصة أن أشعاره تتناقلها الألسن وتشيع بين الناس بما تحمله من السباب والمساس باعتبار الناس, ولم يكن لعدل عمر أن يصمت علي إيذاء أحد ولو كان من شاعر بشهرة الحطيئة, فأرسل إليه الحطيئة من محبسه من يبلغه أبياتا يذكره فيها بأنه ترك أطفالا بلا مورد للرزق قال فيها: ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ حمر الحواصل لا ماء ولا شجر ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة فاغفر عليك سلام الله يا عمر وتذكر إحدي الروايات أن الفاروق تأثر بالأبيات حتي بكي وأمر بإطلاق سراحه بعد عفو الزبرقان عنه. والعجيب أن عمر لما أمر الحطيئة بالكف عن هجاء الناس في شعره, تعذر له الحطيئة بأن في ذلك قطعا لرزقه فهو كان يتكسب من شعره, لكن الفاروق نصحه بألا يقذع في ذلك حتي لا يؤذي الناس بلسانه. وعاش الحطيئة بعد عمر آمنا ينظم الشعر ويروي الناس أشعاره دون أن يلقي عنتا من أحد حتي مات في سنة45 هجرية علي أشهر الروايات. هذان موقفان للصديق والفاروق, أول وأعظم خليفتين في تاريخ الإسلام, من شاعر جاوزت شهرته الآفاق في ذم الناس ومنهم الخليفة الأول الذي لم يعاقبه أو حتي يعقب عليه عندما هجاه وحرض عليه, والثاني لم يمنعه من رواية ونظم الشعر مكتفيا بتحذيره من المساس بكرامة الناس ومكانتهم!.