قال عنه «خليل مطران»: « إنه أشبهُ بالوعاء، يتلقى الوحى من شعور الأمة٫ وأحاسيسها ومؤثراتها في نفسه, فيمتزجُ ذلك كله بشعوره وإحساسه، فيأتى منه القولُ المؤثرُ المتدفقُ بالشعور الذى يحسُّ كلُّ مواطن أنه صدى لما في نفسه». وقال عنه أيضاً: «هو من أفصح أساليب العرب، ينسجُ على منوالها ويتذوقُ نفائس مفرداتها.» ووصفه «عباس العقاد»،بأنه كان «مفطوراً بطبعه على إيثار الجزالة و الإعجاب بالصياغة والفحولة في العبارة.» إنه الشاعرُ المصرىُّ المغوار «حافظ إبراهيم»،ذو القدم الراسخة،والأيادى البيضاء،على الشعر العربى، الذى يُعتبر شعره سجل الأحداث، التى سجلها بدماء قلبه وأجزاء روحه وصاغ منها أدبا قيما يحثُّ النفوس ويدفعُها إلى الأمام، سواء أضحك في شعره أم بكى، وأمل أم يئس، فقد كان يتربص كل حادث مهم ، فيخلق منه موضوعا لشعره ويملؤه بما يجيش في صدره،أبدع فى كل أغراض الشعر وفنونه،ولا تزال قصائده عن مصر وعن اللغة العربية وعن العلم خالدة خلود الزمن.. ذهبتُ إليه،فى عالمه،التقيتُه،وتحدثت معه،ورغم مرور 80 عاما،على رحيله،إلا أن روحه بدت شابة،حتى أنها تخلصت من كثير مما ماتت عليه،رجوتُه ألا يُثقل علىّ بلغة،يصعب على مثلى،فهمهُا،فتبسّم،ورحّب،لكنه لم يُخف غضبا واستياء بالغين،سألتُه:فيم غضبُك واستياؤك؟ فأجابنى :يرضيك أن تُهان قصيدتى عن مصر وروعتها وريادتها، فى فيلم هابط فنيا ك»الليمبى»، الذى أفسد «محمد سعد» به السينما المصرية؟ يرضيك أن تُهان قصيدتى عن اللغة العربية، عبر أراجوز، اسمه «ريكو»؟ تسمّرتُ أمام مضيفى، وشعرتُ بحرج شديد، رغم أن «سعد» و «ريكو» ليسا من «بقية أهلى»، كما أنه لم يدر بخلدى أن يُفاجئنى بمثل هذا الكلام، ولكنى وجدتُ الرجل محقا فى غضبه، فنحن –المصريين- فقدنا احترامنا لتاريخنا الناصع، وأصبح تشويهُه والاستهزاءُ به «فنا وإبداعا»، ثم قلتُ: من حقك أن تغضب يا سيدى، والمصريون مدينون لك باعتذار، لأنهم صمتوا عن إهانة روائعك الخالدة.. قاطعنى: وماذا يُجدى الاعتذارُ، هل سوف تُحذفُ هذه الأغانى، التى ليس لها من اسمها نصيبٌ، فلا تذاعُ مرة أخرى؟ لم أجد إجابة، فتطوع الشاعرُ الكبيرُ بالرد: «طبعا لن يحدث،من أجل ذلك أبلغ مواطنيك عنى، أنى غاضبٌ منهم ولن أسامحهم، فيما فعلوا بتراثى ثم تلا: «ولدت ولما أجد لعرائسي رجالاً وأكفاء وأدت بناتي» ... حاولتُ أن أخرج من هذه الأجواء، فذكّرتُّه ببعض المواقف الطريفة، التى دارت بينه وبين صديقه «أحمد شوقى»، وتطرقنا إلى تفاصيلها، فغادر التجهمُ وجهه، واكتسحت ابتسامةٌ طفوليةٌ شفتيه، فقلتُ:هل تذكر موقفا دار بينكما؟ فأجاب ضاحكا: بالطبع،فقد أنشدتُه فى أمسية باردة: يقولون إن الشوق نار ولوعة فما بال شوقي أصبح اليوم باردا ؟ فعقّب «شوقى» على غير عادته: أودعتُ كلبا وإنسانا وديعة فضيعها الإنسان والكلب حافظ تحفظتُ فى الضحك هذه المرة، حتى لا أُحرج مُضيفى،لكنه هو الذى أسهب فى الضحك، حتى أدمعت عيناه، ثم قال:»شوقى» هو أميرُنا وكبيرُنا، وصديقى الوفى، فقاطعتُه: هل علمت ما قاله فى رثائك؟ أجابنى:نعم، قلتُ:فماذا قال؟ فأجاب:رثانى بقصيدة طويلة، استهلها بقوله: «قد كنتُ أوثر أن تقول رثائي يا مُنصف الموتى من الأحياء». سألتُ «حافظ»: هل التقيتما فى العالم الآخر؟ فأجابنى: نلتقى دائما، وكان بيننا اليوم لقاء، لكنه اعتذر عنه، لدعوته إلى صالون ثقافى، يتحدث فيه عن أشعاره عن مصر، وقد يلحق بنا فى نهاية هذا الحوار، قلت:حسنٌ.. قلتُ:هل من إطلالة على سنواتك الأولى، لا سيما أنها أسهمت بقوة فى تشكيل شخصيتك؟ قال «حافظ»: آه، كانت سنوات صعبة ومريرة، لا أعرف كيف تحملتُها، فقد وُلدتُ على متن سفينة رأسية على النيل أمام ديروط ، بمحافظة أسيوط من أب مصري وأم تركية.. تُوفي والداى وأنا صغيرٌ، فنشأتُ يتيما تحت كفالة خالى، الذي كان ضيق الرزق، فلما أحسستُ بضيق حاله، رحلتُ عن داره وتركتُ له رسالة، أذكر أنى كتبتُ له فيها: «ثقلت عليك مؤونتي إني أراها واهية، فافرح فإني ذاهبٌ مُتوجهٌ في داهية»!! قلتُ:ثم ماذا؟، فأجاب: خرجتُ من عند خالى هائما على وجهى، في طرقات مدينة طنطا، بمحافظة الغربية، حتى انتهى بى الأمرُ إلى مكتب المحامى «محمد أبو شادي»، أحد زعماء ثورة 1919، وعنده اطّلعتُ على كتب الأدب٫ وأُعجبتُ بالشاعر «محمود سامي البارودي»، ثم التحقتُ بالمدرسة الحربية في عام 1888، وتخرجتُ فيها عام 1891، برتبة «ملازم ثان» في الجيش المصري٫ وعُينتُ في وزارة الداخلية، وفي عام 1896 أُرسلتُ إلى السودان مع الحملة المصرية، غير أن الحياة لم تطب لى هنالك، فثرتُ مع بعض الضباط، فأُحلتُ إلى الاستيداع بمرتب ضئيل، وبعد ذلك، التحقتُ بدار الكتب، حتى صرتُ رئيسا للقسم الأدبى بها». قلتُ:وصفوك بأنك أحسنُ خلق الله إنشادا للشعر، فتهللت أسارير«حافظ» مجددا، ثم استدرك: هذا كان فضلا من الله علىّ عظيما، ولكن دعنى أذكرك بأنهم قالوا عنى أيضا: إننى لم أكن أتمتع بقدر كبير من الخيال، فقاطعتُه: لكنهم قالوا: إنك استعضت عن ذلك بجزالة الجُمل٫ وتراكيب الكلمات٫ وحُسن الصياغة، فشكر الرجل لى ما اعتبره مجاملة، فشكرتُ له تواضعه.. استجمعتُ قواى -هذه المرة- وسألته: ما رأيك فى حال العرب؟ فأنشد قائلا: أروني بينكم رجلا ركينا واضح الحسب أروني نصف مخترع أروني ربع محتسب أروني ناديا حفلا بأهل الفضل والأدب وماذا في مدارسكم من التعليم والكتب وماذا في مساجدكم من التبيان والخطب وماذا في صحائفكم سوى التمويه والكذب حصائد ألسن جرّت إلى الويلات والحرب فهبوا من مراقدكم فإن الوقت من ذهب قلتُ:كان لك رأى فى تربية البنات، فماذا تقول فيهن وقد تبدلت أحوالهن، وفسدت؟ صمت «حافظ» قليلا،ثم تذكر أبيات، أنشدها: تتشكّل الأزمان في أدوارها دولاً وهن على الجمود بواقي فتوسطوا في الحالتين وأنصفوا فالشرّ في التّقييد والإطلاق ربوا البنات على الفضيلة إنها في الموقفين لهنّ خير وثاق وعليكمُ أن تستبين بناتكم نور الهدى وعلى الحياء الباقي قلتُ: ألهذا أوصيت خيرا بالمرأة، ووصفتها بالمدرسة؟ قاطعنى «حافظ»، قائلاً: من لي بتربية النساء فإنها في الشرق علة ذلك الإخفاق الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق الأم روض إن تعهده الحيا بالريّ أورق أيما إيراق الأم أستاذ الأساتذة الألى شغلت مآثرهم مدى الآفاق أنا لا أقول دعوا النساء سوافراً بين الرجال يجلن في الأسواق يدرجن حيث أرَدن لا من وازع يحذرن رقبته ولا من واقي يفعلن أفعال الرجال لواهيا عن واجبات نواعس الأحداق في دورهن شئونهن كثيرة كشئون رب السيف والمزراق قلتُ: مررت بكثير من التحولات المرة فى حياتك، تُرى أيهما أفضل، أن يؤتى المرءُ مالا، أم يؤتى علما؟ أطرق الرجل رأسه إلى الأرض ثم رفعها، وقال: والمال إن لم تدخره مُحصنا بالعلم كان نهاية الإملاق والعلم إن لم تكتنفه شمائل تعليه كان مطية الإخفاق لا تحسبن العلم ينفع وحده ما لم يتوج ربه بخلاق قلتُ: فلنختتم حوارنا بما بدأنا به، أخبرنى فيم غضبك من «محمد سعد»؟ أجابنى مضيفى الكريم: فى فيلم «الليمبى»، سخر من بعض شعرى، عندما ردد مطلع قصيدتى «وقف الخلق جميعا»، وكان ثملا. قلتُ: ربما أراد مزاحا، فقاطعنى:إنه مزاح ثقيل وهابط، كصُنّاعه، والأدهى من ذلك، ما فعله شخص انتسب إلى الفن اسمه، وهو «ريكو»، عندما أهان قصيدة تى عن اللغة العربية فى إحدى هزلياته.. قلتُ: دعك من كل هذا وأخبرنى، كيف ترى مصر، وحالها؟ أجابنى واثقا، ومتحدثا باسم مصر: وقف الخلق ينظرون جميعا كيف أبني قواعد المجد وحدي وبناة الأهرام في سالف الدهر كفوني الكلام عند التحدي أنا تاج العلاء في مفرق الشرق ودراته فرائد عقدي إن مجدي في الأوليات عريق من له مثل أولياتي ومجدي قلتُ: ولكن أقزاما يستهدفون مصر ويتوهمون أنهن بدائل لمصر، فقاطعنى: أنا إن قدر الإله مماتي لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي ما رماني رام وراح سليماً من قديم عناية الله جندي كم بغت دولة عليّ وجارت ثم زالت وتلك عقبى التحدي إنني حرة كسرت قيودي رغم أنف العدا وقطعت قيدي أتراني وقد طويت حياتي في مراس لم أبلغ اليوم رشدي قلتُ:لكنهم يفعلون، فتساءل فى حسرة: أمن العدل أنهم يردون الماء صفوا وأن يكدر وردي أمن الحق أنهم يطلقون الأسد منهم وأن تقيد أسدي قلتُ:فبم تنصح المصريين؟، فأجاب: نظر الله لي فأرشد أبنائي فشدوا إلى العلا أي شد إنما الحق قوة من قوى الأديان أمضي من كل أبيض وهندي قد وعدت العلا بكل أبي من رجالي فانجزوا اليوم وعدي وارفعوا دولتي على العلم والأخلاق فالعلم وحده ليس يجدي نحن نجتاز موقفاً تعثر الآراء فيه وثمرة الرأي تردى فقفوا فيه وقفة حزم وارسوا جانبيه بعزمة المستعد حينئذ شعرتُ بالفخر أننى أنتمى إلى وطن أنجب «حافظ إبراهيم»، حتى لو كان اليوم فى أسر جماعة الإخوان، فالنصر آت لا محالة، وقد يجعل الله من بعد عسر يسرا، وفيما ودعت مضيفى الكبير، إذا بصديقه «أحمد شوقى»يأتى، فقدمنى له، وتعارفنا، ثم افترقنا على وعد بلقاء..