عشرون عاما مرت على اغتيال المفكر المثير للجدل الدكتور فرج فودة بأيدى المتطرفين، لكنها لم تكن كفيلة أبدا بموت ما طرحه من أفكار بشأن الدولة الدينية ومخاطرها، فالأفكار لا تموت. غادر الرجل الحياة غدرا وغيلة، ولكن ما تعيشه مصر الآن من تكالب تيارات الإسلام السياسى على حكم مصر بوسائل غير مشروعة يؤكد أن «فودة» - ولو اختلفنا مع بعض أفكاره- كان سابقا لعصره وكان أكثر حدسا من «مفكرى القطيع». من قتل فرج فودة؟ هذا هو السؤال الذى تجيب عنه «فيتو» فى هذا التحقيق التاريخي، خاصة مع مطالبة مفكرين وكتّاب بإعادة التحقيق فى حادث مقتله. «فيتو» استجوبت شهود عيان ورفقاء الراحل للإجابة عن هذا السؤال. سيناريو الاغتيال مشهد 1: «السادسة والربع من مساء الثامن من يناير 2991» يخرج فرج فودة من مكتبه بجمعية التنوير فى شارع أسماء فهمي، مدينة نصر، وبصحبته ابنه أحمد وصديقه وحيد رأفت فى طريقهم لاستقلال سيارة خاصة. مشهد2: شابان يقود أحدهما دراجة بخارية وخلفه يجلس الثانى ممسكا برشاش آلى محشو بالذخيرة الحية فيصوب سلاحه نحو الكاتب وصحبه فاتحا نيرانه عليهم، فيصاب فودة بعدة رصاصات فى أنحاء متفرقة من الجسد. مشهد3: يسقط فودة مضرجا فى دمائه وسط صراخ من ابنه وصديقه ويقوم فودة مرة أخرى صارخا، بينما يحاول القتلة الفرار «امسكوهم.. لا تتركوهم.. أنا فداكى يا مصر». مشهد4: سائق فرج فودة يسرع ومعه أمين الشرطة المكلف بحراسة الكاتب يطاردان الدراجة البخارية. مشهد5: غرفة العمليات بمستشفى الميرغنى بمصر الجديدة: يتمدد فودة والأطباء يحاولون إيقاف النزيف وعلاج التهتك الذى ضرب كبده قبل أن ينهار جسد فودة بهبوط حاد فى الدورة الدموية، فيلفظ أنفاسه الأخيرة ممسكا بيد صديقه رأفت فيقول له:«اشهد يا وحيد دمى ده علشان مصر». مشهد6: «داخل المحكمة»: القاضى يسأل القاتل: لماذا قتلته .. القاتل: لأنه كافر.. القاضي: ومن أى ما كتبه عرفت أنه كافر؟ القاتل: أنا لم أقرأ كتبه .. القاضي: كيف؟.. القاتل: أنا لا أقرأ ولا أكتب! مشهد7: «داخل المحكمة الشيخ محمد الغزالى متطوعا بالشهادة»: إن فرج فودة بما قاله وفعله كان فى حكم المرتد، والمرتد مهدور الدم، وولى الأمر هو المسئول عن تطبيق الحد، وأن التهمة التى ينبغى أن يحاسب عليها الشباب الواقفون فى القفص ليست هى القتل، وإنما هى «الافتئات على السلطة». قبل الحادث كانت كتابات فودة قد أثارت جدلا واسعا بين المثقفين والمفكرين ورجال الدين، واختلفت حولها الآراء وتضاربت، فقد طالب بفصل الدين عن الدولة، وكان يرى أن الدولة المدنية لا شأن لها بالدين، وشرع فى تأسيس حزب باسم «المستقبل» وكان ينتظر الموافقة من لجنة شئون الأحزاب، ووقتها كانت جبهة علماء الأزهر تشن هجوما كبيرا عليه، وطالبت بعدم الترخيص لحزبه، بل وأصدرت الجبهة فى 2991 «بجريدة النور» بياناً «بكفر» فودة وأهدرت دمه. بينما خاض فرج فودة معارك صحافية متوالية، أبرزها معاركه مع الشيخ صلاح أبو إسماعيل، وفهمى هويدي، والصحفيين محمد الحيوان ومحمد عبد القدوس. سلاح بلا ذخيرة الكاتب الصحفى كمال بولس، كان أحد أقرب المقربين للراحل فرج فودة، ورافقه لعشرين عاما، منذ أسس الراحل مجموعة فودة الاقتصادية، ويفجر بولس المفاجأة متحدثا ل«فيتو»: بلا شك النظام السابق هو من أعطى الضوء الأخضر للخلاص من فودة وفى عزاء المرحوم قلت لصفوت الشريف وزكريا عزمي، الذى أتيا لتقديم واجب العزاء: نحن لا نقبل عزائكما انتم تعرفون من قتله». فى تلك الأيام كانت الصحف تنشر أكاذيب على لسان الدكتور فرج فودة، -والكلام لصديقه بولس- الذى استطرد: «مرة يكتبون أن فودة طلب رفع الحراسة عنه، ومرة يقولون إنه يتعمد عدم مرافقة الحارس له، وهذا كذب فالدولة كانت خصصت أمين شرطة بسلاح بلا ذخيرة، لحراسة الراحل، رغم أنهم يعرفون الخطر الذى يحيق به خاصة بعد مناظرة معرض الكتاب الشهيرة، ثم تحريض وجدى غنيم على قتله حيث قال بالحرف: قتله هو الحل، قاصدا فرج فودة». رفض الانضمام إلى «الوطني» فى كل الندوات التى شارك فيها الراحل فرج فودة، كنت تجده، شخصا هادئا وكأنه حارسه الشخصي، هو صديقه المقرب - أيضا- جمال صلاح الدين، والذى يقول «من قتلوا فرج فودة راقبوه قبل يوم الاغتيال لمدة 33 يوما، والقاتل اتضح أنه مجرد «سماك» أمى لا يقرأ ولا يكتب، وهذا الكلام ثابت فى محاضر التحقيق وفى أقواله بالمحكمة، ومتابعا يواصل صلاح الدين: «القاتلان عبد الشافى وأشرف، كانا مجرد أداة فقد باعا ثلاجة السمك التى كانا يمتلكاها لشراء سلاح آلى استخدماه فى تنفيذ الجريمة بعد أن رفض صفوت عبد الغنى الذى حرضهما من محبسه تمويل العملية، وقد اعترف المتهمين بأن محامى صفوت عبد الغنى هو من نقل لهما كلام موكله عن إهدار دم الدكتور فودة». أما عن القاتل الحقيقى للدكتور فودة فيقول صلاح الدين :«هناك إشارات يجب أن تلهمنا فى هذا الأمر، فقبل عملية الاغتيال، تلقى فودة مكالمة هاتفية بحضور عدد من أصدقائه، كان طرفها الثانى هو زكريا عزمى رئيس ديون رئيس الجمهورية السابق، وكان ملخصها دعوة وجهت للدكتور فودة للانضمام للحزب الوطنى، فقال زكى بدر بالحرف: يا دكتور أنت نجمك صاعد.. والحزب الوطنى فى انتظارك، فهل أنت معنا، فكان رد فودة:إن شاء الله لأ.. أنا مستقل، وانتهت المكالمة». فيما يقول إسحاق حنا مهندس ديكور، وصديق الراحل ومدير جمعية التنوير التى أسسها فودة: «كانت هناك محاولات سابقة لاغتياله، كانت أولها بعد إسقاط الدكتور فرج فى انتخابات البرلمان فى شبرا عام 7891، بعدما رفض المفكر الراحل الانضمام للحزب الوطني. إشارة: استقال فرج فودة من حزب الوفد الجديد، وذلك لرفضه تحالف الحزب مع جماعة الإخوان المسلمين لخوض انتخابات مجلس الشعب المصرى عام 4891. متعجبا يواصل حنا:«فودة كان مسلما أكثر من مسلمين كثيرين يتظاهرون بالورع والتدين وبالمناسبة بنفسى أشرفت على ديكورات منزله وشقته والتى أصر على أن تكون على الطراز الإسلامى الذى يعشقه وكان دائما يقول لى إنه يحب هذا الطراز لأنه يعبر عن دينه». القمني: الأمن متورط إلى بعد آخر فى القضية يشير الكاتب سيد القمنى فيقول: «محاولات اغتيال فودة تعددت، منها ما حدث بعد صدور كتابه «الملعوب» عن شركات توظيف الأموال حيث قامت سيارة نقل ثقيل بدهس سيارته لكنه لم يكن موجود فيها ثم إطلاق النار عليه من قبل الإرهابيين فى أثناء انتخابات البرلمان». القمنى بشكل مباشر أشار لضلوع الأمن فى عملية الاغتيال» فور وقوع الحادث اجتمع أصدقاء فودة، واجمعوا على أن للدولة يد فى الأمر، خاصة أنها - أى الدولة- كانت أكثر ميلا للإسلاميين وتخشى الصدام معهم، فكان تواطؤ الأمن وغض النظر عن الأخطار التى كانت تحيق بالرجل». الشرطة كانت فى أسوأ حالاتها وجهة النظر الأمنية يمثلها اللواء فؤاد علام، وكيل جهاز مباحث أمن الدولة الأسبق، فيقول: «ليس من المعقول أن يشارك الأمن فى اغتيال مفكر بقيمة وقامة الدكتور فرج فودة، لكن للحق أقول إن الجهاز الأمنى فى مصر شهد تراجعا فى أدائه وأصابه الوهن منذ عهد النبوى إسماعيل، وكان أضعف ما يكون فى عهد عبد الحليم موسى وزير الداخلية وقت اغتيال فودة». إشارة: ختم الدكتور عبد الغفار عزيز مؤسس جبهة العلماء التى أصدرت بيان عام 2991 تندد فيه بأفكار وأراء فودة يشمل التحريض على قتله، كتابه «من قتل فرج فودة»؟ بقوله: «إن فرج فودة هو الذى قتل فرج فودة، وإن الدولة قد سهلت له عملية الانتحار، وشجعه عليها المشرفون على الصحف التى كانت تستكتبه وساعده أيضا من نفخ فيه، وقال له أنت اجرأ الكتّاب وأقدرهم على التنوير والإصلاح». أما صفوت عبد الغنى والذى انضم إلى الجماعة الإسلامية وهو لا يزال طالباً بالمرحلة الثانوية، واتهم فى قضية اغتيال السادات وعمره لم يتجاوز 81 سنة، وحصل على البراءة فى قضية اغتيال المحجوب رغم اعترافه بارتكاب الحادث، وهو صاحب أشهر واقعة هروب أثناء حبسه فكان أحد المتهمين بالتحريض على قتل فرج فودة. عن اتهامه يقول صفوت عبد الغنى: «تم الزج بى فى قضية فرج فودة فكنت حينها سجينا على ذمة قضية مقتل الدكتور رفعت المحجوب أرادوا الانتقام منى فى قضية فودة.. وشخصيا اعتقد أن فودة هو السبب فى مقتل فودة.. بمعنى أن كتاباته وأفكاره كلها كانت ضد الإسلام ومحاربة شريعته وتصريحاته الصدامية فى ذلك الوقت المشحون كان المحرض الرئيسى لقتله..» إشارة: سألنا صفوت عبد الغنى عما إذا كان يرى أن فرج فودة كان يستحق القتل فرد «أرفض الإجابة على هذا السؤال». كواليس المحكمة التى نظرت قضية اغتيال فودة عقدت 43 جلسة استمعت فيها إلى أقوال 03 شاهداً، وطلب المحامون شهادة الدكتور محمود مزروعة الذى تولى رئاسة ندوة العلماء خلفا للدكتور عبد الغفار عزيز، بينما تطوع للشهادة الشيخ محمد الغزالي. بعد ادلاء مزروعة بشهادته عرض عليه الشيخ الغزالى أن يصدر مجموعة من العلماء بياناً تضامناًً معه ومع ندوة العلماء خوفاً من الزج به فى تهمة التحريض رغم أن القانون يحمى الشهود ويتيح لهم أن يبدوا ما شاءوا من آراء دون أن تكون هذا الآراء مدعاة لمؤاخذتهم فيما بعد، وكانت القائمة الأولى من الموقعين على البيان التضامنى مع الشيخ الغزالى تشمل الدكتور محمد نايل، والدكتور محمد عمارة والشيخ الشعراوى الذى كان قد وصل لتوه من السعودية بعد إجراء عملية جراحية فى عينه، وقال لهم اكتبوا ما تشاءون وأنا أوقع فى النهاية.