لم تثر قضية سرقة أدبية الجدل مثلما أثار اقتباس «الكوميديا الإلهية» للأديب الإيطالى دانتى اليجييرى من «رسالة الغفران» للأديب العربى «أبو العلاء المعري»، بما يشير إلى ضرورة الاعتراف بالفضل العربى والإسلامى على الثقافة الأوربية، وتحديدًا بعد سقوط الأندلس قبيل بدء عصر النهضة. «الكوميديا الإلهية» واحد من أهم الأعمال الأدبية الأوربية، ويصفه البعض بأنه «إنجيل أوربا الأدبي»، ويصف العمل رحلة «دانتي» إلى الآخرة في ملحمة شعرية، وقد ألفه دانتي، خلال الفترة من عام 1308م حتى وفاته في 1321م. وينقسم هذا العمل إلى ثلاثة أجزاء، أولها «الجحيم» وهو الأشهر، و«المطهر»، و«الجنة»، وكل جزء فيه مكون من 33 قصيدة، ويضاف إليها المقدمة ليصل عدد القصائد إلى 100 قصيدة، وهو رقم الكمال كما في الإسلام الذي تكتمل التسبيحات بالعدد 100، وبحسب أحداث الملحمة فإن مدة رحلة «دانتي» استمرت أسبوعًا (يومين في الجحيم، و4 في المطهر، ويومًا واحدًا في الجنة) أما «رسالة الغفران» لأبى علاء المعرى فهى عمل أدبى نثرى ذو طابع روائي، كتبه «المعري» ردًا على رسالة «ابن القارح»، وتلك الرسالة تعد المفتاح لفهم الغفران، ثم جاءت الكاتبة عائشة عبد الرحمن لتنشر الرسالة بعد تحقيقها مضافًا لها رسالة «ابن القارح». «المعري» نفسه بدأ رسالته بمقدمة وصف فيها رسالة ابن القارح وأثرها الطيب في نفسه، قائلا عنها «كلمة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ثم استرسل بخياله الجامح إلى بلوغ ابن القارح للسماء العليا، بفضل كلماته الطيبة التي رفعته إلى الجنة»، فوصف حال ابن القارح هناك مطعمًا الوصف بآيات قرآنية وأبيات شعرية يصف بها نعيم الجنة، استقاها من القرآن الكريم مستفيدًا من معجزة الإسراء والمعراج، أما الأبيات الشعرية فقد شرحها وعلق عليها لغويًا وعروضيًا وبلاغيًا. ظل «ابن القارح» يتنقل في الجنة، ويلتقى ويحاور عددًا من الشعراء من مشاهير الأدب العربي، داعيًا لهم بالمغفرة بسبب أبيات قالوها، ومنهم زهير بن أبى سلمى والأعشى وعبيد بن الأبرص والنابغة الذبيانى ولبيد بن أبى ربيعة وحسان بن ثابت والنابغة الجعدي، ثم يوضح قصة دخوله للجنة مع رضوان خازن الجنة، ويواصل مسامراته الأدبية مع من يلتقى بهم من شعراء وأدباء، ثم يعود للجنة مجددًا ليلتقى عددًا من الشعراء يتحلقون حول مأدبة في الجنة وينعمون بخيرات الجنة من طيور وحور عين ونعيم مقيم. ثم يمر وهو في طريقه إلى النار بمدائن العفاريت فيحاور شعراء الجن مثل «أبو هدرش»، ويلتقى حيوانات الجنة ويحاورها ويحاور الحطيئة، ثم يلتقى الشعراء من أهل النار ولا يتوانى عن مسامرتهم وسؤالهم عن شعرهم وروايته ونقده ومنهم امرؤ القيس وعنترة بن شداد وبشار بن برد وعمرو بن كلثوم وطرفة بن العبد والمهلهل والمرقش الأكبر والمرقش الأصغر والشنفرى وتأبط شرًا وغيرهم، قبل أن يعود من جديد للجنة ونعيمها. لم يكن معروفًا عن رسالة الغفران الشيء الكثير حتى اكتشف المستشرق الإنجليزى «رينولد نيكلسون»، الذي تخصص في دراسة التصوف والأدب الفارسى والعربي، مخطوطها ونشر ملخصًا للجزء الأول منها في عام 1900 وملخصًا للجزء الثانى عام 1902. ورغم نشر «نيكلسون» لملخص «رسالة الغفران» إلا أن الربط بينها وبين الكوميديا الإلهية لم يأت إلا عام 1919، بعد قيام المستشرق الإسبانى ميجيل بلاثيوس، الذي اهتم بدراسة الفكر والأدب العربى فيما يتعلق بالتصوف، بنشر كتابه «الأصول الإسلامية للكوميديا الإلهية»، والذي كان محور خطابه الذي ألقاه في المجمع اللغوى بمدريد عند انضمامه إليه. أعيد نشر الكتاب في عام 1934، وقال في كتابه إن «الكوميديا الإلهية رغم روعة أسلوبها إلا أنها تجردت من أصالتها، لأنها تتبعت قصة الإسراء والمعراج من الأدبيات الإسلامية، بالإضافة إلى رسالة الغفران، وعمدت إلى إعادة صياغتها، لم يكتف بهذا العمل، بل وضع كتابًا آخر مستقلًا متصلًا بهذا الموضوع نشر بعد وفاته عنوانه قصة المعراج والكوميديًا الإلهية». كتابات الإسبانى «بلاثيوس» حول الكوميديا الإلهية، شكلت صدمة للأدباء في أوربا، وتحديدًا بإيطاليا، مما دفعهم لمطالبته بالدليل على أن «دانتي» قد اطلع على رسالة الغفران، خصوصًا أنها لم تظهر إلا عام 1900، غير أنه لم يستطع إثبات ذلك حتى وفاته، قبل أن يأتى الرد من روما عام 1949، عندما نشر المستشرق الإيطالى انريكو تشيرولى دراسة عن ذلك. في دراسته، شرح المستشرق الإيطالى تفصيلا كيف وصلت رسالة الغفران إلى «دانتي»، موضحًا أن ألفونسو العاشر ملك قشتالة بإسبانيا، كان مهتمًا بالأدب وكل ما هو متبق من ثورة العرب العلمية والأدبية، أمر بترجمة «رسالة الغفران» إلى القشتالية في عام 1264، أي قبل مولد دانتى بعام واحد، وفى نفس العام طلب من مترجم إيطالى ترجمتها من القشتالية إلى اللاتينية والفرنسية القديمة لنشرها فيما وراء الحدود الإسبانية، وذلك في كتابه «المعراج ومسألة المصادر العربية الإسبانية للكوميديا الإلهية». ويظهر التشابه الشديد بين العملين، ف«رسالة الغفران» رحلة خيالية مدهشة إلى الدار الآخرة (الجنة ثم الجحيم)، والكوميديا الإلهية هي نفس الشيء لكنها تبدأ بالجحيم، والمعرى اتخذ له رفيقًا في الرحلة يحاوره هو ابن القارح، ودانتى اتخذ الشاعر الرومانى (فرجيل) رفيقَا. ورحلة المعرى تقوم على حوارات مع شعراء وأدباء، فيما تقوم رحلة دانتى كذلك على حوارات مع فلاسفة وأدباء، كما أن المطهر، وهو المكان الذي ينتظر فيه المذنبون حتى يتطهروا من ذنوبهم لدخول الجنة، هو نفس الوصف القرآنى لجبل الأعراف الذي يقع بين الجنة والنار. أما عن التشابه بين «الإسراء والمعراج» و«الكوميديا الإلهية» فيأتى في رحلة الشعاع الإلهي، حيث لابد أن يجتاز فرجيل المطهر المكون من 7 مستويات ليصل إلى جنة عدن، وكذلك لرؤية الشعاع الإلهى برفقة المرشدة (بياتريس) التي تساعده على اجتياز نهر النسيان، ما يتماثل بقوة مع رحلة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى مجتازًا السماوات السبع.