«مصير مخيف»... هذا هو الوصف الدقيق لما كان ينتظره عبد الحميد السراج نائب الرئيس جمال عبد الناصر بعد الانقلاب على الوحدة مع سوريا. فالرجل الذي اكتسب عداوات كثيرة بسبب مواقفه الداعمة للوحدة، أشدها كان من الضباط الانفصاليين بقيادة عبد الكريم النحلاوى الذي تولى السلطة في سوريا، وكان هناك أيضا العداء الأبدى مع إسرائيل ومن وراءها، ومن يقف ضد مصالحها المهددة بوحدة مصر وسوريا، كان ينتظره أكثر من مجرد التوارى خلف ظلام سجن «المزة» العسكري، بمحاولة اغتياله التي دبرها الحزب القومى الاشتراكى السورى. هذا المصير هو ما دفع مصر لمحاولة تخليصه منه، لا سيما وأن السراج قدم الكثير من الخدمات للقاهرة، كان منها الكشف عن محاولة اغتيال جمال عبد الناصر وقت زيارته إلى الإقليم الشمالى «سوريا»، بالإضافة إلى تفجير أنابيب البترول العراقية التي تضخ النفط في الناقلات البريطانية وقت العدوان الثلاثى على مصر. عبد الحميد السراج من مواليد حماة عام 1925، بدأ حياته كحارس على مدخل أحد الأبواب بسوق مدينة حلب، وأثناء ذلك بدأ في الاستعداد لامتحان شهادة البكالوريا تمهيدًا للالتحاق بالكلية العسكرية بعدها عام 1947، وقد حاول حينها الالتحاق بجيش الإنقاذ الذي دشن على إثر نكبة فلسطين، إلا أن قادة الجيش رفضوا لانعدام خبرته العسكرية. وعقب الوحدة مع سوريا، كان من الطبيعى أن يلمع نجم «السراج» فتولى مهمة وزارة الداخلية في الإقليم الشمالي، بالإضافة إلى منصبه كنائب للرئيس عبد الناصر، وكذلك سيطر على المخابرات السورية، فكان الرجل الأقوى في سوريا لسنوات عدة، إلا أن دعم المشير عبد الحكيم عامر لمدير مكتبه عبد الكريم النحلاوى والذي أشعل هو الآخر الخلافات بين عامر والسراج، مكن النحلاوى من تشكيل تنظيم سرى قوى بدعم من الأردن ودول خليجية، وكذلك من رجال الأعمال السوريين الغاضبين من قرارات التأميم، ليتم الانقلاب على الوحدة وطرد «عامر». وكان من الطبيعى الانتقام من «عبد الناصر» في ظله بسوريا عبدالحميد السراج، فاعتقل من منزل أحد أقارب زوجته في منطقة الحواكير في سبتمبر 1961 باعتباره ممثل عبد الناصر والوحدة في سوريا، وقد وصلت أنباء إلى «ناصر» حينها مفادها أن السراج يتعرض لأبشع أنواع التعذيب، حتى قيل إن زوجته ضعف بصرها من شدة الحزن عليه. بعد توارد هذه الأنباء، بدأ جس نبض القيادة اللبنانية ممثلة في اللواء فؤاد شهاب، لمعرفة إذا كان من الممكن المساعدة في عملية تهريب «السراج» عن طريق لبنان، فوافق شهاب شريطة عدم توريط قواته في الحدث، وعدم تعريضها للخطر، فتم الاتصال بحارس السراج في سجنه «منصور الرواشدة»، عن طريق الزعيم اللبنانى كمال جنبلاط، ليتم تهريب السراج ونقله إلى الأراضى اللبنانية. وتضمن دور «الرواشدة» تأمين هروب السراج من باب السجن حتى مشارف دمشق، وشملت الخطة دراسة طبيعة الأرض وخطوط الاقتراب من دمشق حتى الحدود اللبنانية - السورية، بما في ذلك الطرق والوسائل التبادلية في النقل من الخيل والجمال والموتوسيكلات والسيارات، وتفادى نقاط التفتيش بما فيها اللبنانية منعًا للحرج، إضافة إلى ترتيب وجود غواصة مصرية أمام السواحل اللبنانية في اتجاه مبنى السفارة المصرية، وأن يتولى قيادة الطائرة المصرية التي ستصل إلى بيروت لنقل السراج إلى القاهرة الكابتن عبد الرحمن عليش. وتولى الإشراف على خطة التهريب كل من سامى شرف - سكرتير الرئيس عبد الناصر للمعلومات - بالتنسيق مع القائد العسكري اللبنانى سامى الخطيب، وضابط المخابرات المصرى محمد نسيم الذي كان يعمل في لبنان تحت غطاء موظف بالسفارة اللبنانية لتنفيذ خطة الهروب. وفى اليوم المحدد، قام «الرواشدة» بتغيير مناوبته في السجن مع زميله، وأحضر بزة عسكرية سربها إلى الزنزانة كى يرتديها السراج، وأخرج السراج من الزنزانة حاملًا بطانية تحت إبطه، ومشى خلف الرواشدة، ولإخفاء صوت خطواته أخذ يرمى البطانية، ليمشيا عليها، ثم يعود ويسحبها من جديد ويرميها أمامهما، وظلا هكذا حتى وصلا إلى سيارة «الرواشدة» وكان قد تركها في ساحة قرب السجن. وكان الاتفاق مع السفير المصرى في لبنان عبد الحميد غالب وأعضاء السفارة أن يكونوا طبيعيين في تصرفاتهم وتحركاتهم، لتجنب لفت الأنظار. ووصل عبد الحميد السراج برفقة حارسه في السجن، وكان في استقباله الزعيم كمال جنبلاط، الذي اصطحبهما في سيارته الكاديلاك السوداء إلى منزل محمد نسيم في بيروت. وبمجرد وصول السرّاج إلى منزل محمد نسيم تمت عملية تغيير ملامحه بشعر مستعار وشوارب، وقام سامى شرف بعد ذلك بزيارة الرئيس فؤاد شهاب، حيث أبلغه بوصول السراج إلى بيروت، وأن المخطط هو سفره إلى القاهرة في أسرع وقت حتى لا يسبب حرجًا للسلطات اللبنانية، واستجاب الرئيس شهاب، فقاد الخطيب السيارة بنفسه في طريقه إلى مطار بيروت، وكان يجلس بجواره محمد نسيم، وفى الخلف جلس السراج وشرف والرواشدة، وارتدى الجميع ملابس عسكرية لبنانية، فتم التعامل معهم كإحدى دوريات الأمن، واخترقت السيارة سور المطار من ثغرة أعدت على عجل، ووصلت السيارة إلى المدرج مباشرة لتقابل الطائرة المصرية التي تحمل الصحف المصرية إلى بيروت يوميًا. وللطائرة قصة خاصة، حيث كانت الخطة المتفق عليها ما قام به قائدها من إبلاغ برج المراقبة أن هناك عطلًا مفاجئًا في الطائرة وفتح بابها وإسقاط سلمها من الداخل، وتم تنفيذ المتفق عليه من دون معوقات، حيث دخل الطائرة وأقلعت الطائرة بالثلاثى عبد الحميد السراج، ومنصور الرواشدة، وسامى شرف. هبطت الطائرة في مطار القاهرة قبيل السابعة صباحًا، وطلب الرئيس عبد الناصر أن يتوجه السراج وشرف إلى منشية البكرى لتناول الإفطار معه، وفى اليوم التالى نشر خبر صغير من ثلاثة سطور في الصفحة الأولى بجريدة «الأهرام» عنوانه «عبد الناصر يستقبل عبد الحميد السراج بمنشية البكري». ولم تكن مهمة نقل السراج إلى المطار سهلة رغم سريتها، فقد حاول الموساد ضرب عصفورين بحجر واحد، أو بالأحرى عدة عصافير منها قتل السراج ونسيم وشرف داخل الأراضى اللبنانية، وكشف تورط السلطة اللبنانية في الأمر، عن طريق تلغيم السيارة بوضع قنبلة في ماسورة العادم الخاص بالسيارة، وهى طريقة لم تكن متبعة إلا أن نسيم اكتشف المخطط وأبطل مفعول القنبلة. وقد عاش السراج في مصر بعدها ليتولى مسئولية الملف العراقى والسورى بمكتب الرئيس باعتباره أكثر مستشارى الرئيس خبرة في الملفين، وعقب وفاة عبد الناصر عاش بعيدًا عن الأضواء لسنوات طويلة ليتوفى في 24 سبتمبر 2013.