هو "الغراب" وليس غيره سبب كل ما نعانيه نحن الفقراء والحرافيش في بلادنا.. الغراب دائما ما يأخذ أحلامنا ويطير.. يرفرف بأمانينا المسلوبة على جذوع شجر السنط العجوز "العاجز" حتى عن إنجاب وريقات خضراء تحفظ ماء وجهه بين الشجر اليانع في شهور الربيع لتهجره العصافير والبلابل ويأنس به ذاك الناعق فوق أطرافه الجدباء وصدى صوته يملا آذان الحرافيش هنا وهناك دون مبالاة حتى لرد فعل أي منهم.. الغراب تارة يكون إنسانا وتارة يكون طائرا وتارة يكون فألا، ليس حسنا بالطبع، وأخرى يكون حظًا عثرًا في الدنيا كتب علينا نحن الحرافيش ليس إلا.. ويبدو أننا نتوارثه عن آبائنا وأجدادنا مهما طورنا من أنفسنا أو أتممنا تعليمنا العالى. أكتب هذه المقدمة الناعقة بعد قراءتى لتلك الرسالة التي جاءتنى ضمن رسائل كثيرة وصلتنى هذا الأسبوع والتي سأعرضها عليكم في السطور القادمة دون حذف أو إضافة: عزيزى الحرفوش الكبير.. تحياتى لك يا سيدى مرفقة بخالص الامتنان والمحبة مخلوطة ببعض القهر الكامن في حناجر صوتى وخلف سطور رسالتى حين تقرؤها.. فالعذر كل العذر إن خرجنا عن اللياقة التي سأحاول جاهدا ألا أخرج عنها تأدبا معكم وفى حضرتكم. أنا يا سيدى شاب قارب على الثلاثين من عمره.. تخرجت في كلية التجارة شعبة المحاسبة في عام 2007 ومنذ هذا الوقت وأنا أنتظر فرصتى في التعيين لكنها لم تأت.. أتقدم لجميع المسابقات دون جدوى حتى فقدت الأمل.. فما عادت الثورات تغير من وضع يضرب في جذور الوطن وهو وضع الوساطة والمحسوبية.. وما عدت أنا ولا غيرى من أمثالى حرافيش الوطن نستطيع أن نغير فيه شيئا مهما كتبنا أو صرخنا أو حتى ثرنا.. حتى التظاهر ضده أصبح بتصريح من المتظاهر ضدهم.. فاخترنا أن نريح ونستريح وبات الصمت ملاذنا حتى جاءت فرصة للتعيين فحسبتها هي الأخيرة وهى الأوفر حظا لى باعتبارها وظيفة مضمونة ستأتى على طبق من فضة لكونى أحد أبناء العاملين بها. إنها وظيفة كانت قد أعلنت عنها وزارة الداخلية للتعيين بمديرية أمن أسوان.. طلب الوظيفة يا سيدى كان صريحا مريحا فالمطلوب ثلاثون شابا من أبناء العاملين للتعيين بالوظائف المدنية.. تم تحديد خمسة وعشرين منهم مؤهلات متوسطة وفوق متوسطة وعدد خمسة أفراد من الحاصلين على المؤهلات العليا للعمل بقسم التنمية الإدارية. الغراب الذي كان ينعق في وجهى عند كل مسابقة أتقدم لها معلنا عن حظ عثر لم ينعق هذه المرة.. فقررت المديرية إجراء قرعة علنية بين أبناء العاملين بكل نزاهة وشفافية وبعيدا عن المحسوبية فوفقنى الله عز وجل أن أكون ضمن الثلاثين اسما الناجين من البطالة والناجحين في المسابقة بالقرعة العلنية. لا أستطيع يا سيدى أن أصف لك مدى سعادتى وفرحة أسرتى حيث إننى الابن الأكبر في منزلنا المتواضع وأنا من أعول أسرتى لأن والدى رجل مسن كان يعمل "مساعد شرطة" وبات محالا للمعاش. لكن هيهات أن تكتمل الفرحة فقد عاد الغراب ينعق من جديد.. فمندوب مديرية أمن أسوان ذهب للقاهرة حيث مكتب شئون الأفراد ليسلم أوراق الناجحين واستلام كرأسات التحريات الخاصة بهم فأخبروه بأنه لا توجد مشكلة في تسليمه كرأسات التحريات الخاصة بالمؤهلات المتوسطة وفوق المتوسطة وعددهم (25) فقد تم تعيينهم.. أما كرأسات التحريات الخاصة بقسم التنمية الإدارية وعددهم (5) فإنه قد سلم عدد (4) كرأسات منها فقط أما الكراسة الخامسة فلن تُقبل لأنه قد تم تعيين فتاة من أبناء العاملين بالمديرية. كان تعيين الفتاة قد تم قبل إجراء المسابقة المعلنة حيث أصر مكتب شئون الأفراد على تسليم عدد (4) كرأسات فقط واعتبر أنها نجحت ضمن المسابقة المعلنة دون دخولها بالمسابقة... فما كان من السيد اللواء مدير أمن أسوان إلا القبول بذلك.. ولذلك فقد تم إجراء قرعة إجبارية أخرى للناجحين الخمسة من المؤهلات العليا بقسم التنمية الإدارية لكى تتم التضحية بأحدهم لتلك الفتاة وقد أسفرت بالطبع القرعة عن استبعادى أنا الحرفوش الصغير المدعو "ريان رفاعى أبو المجد" الذي عاد ليأنس بصوت غراب النحس والشوم الذي دوما ما يلازم فقراء هذا الوطن وحرافيشه. ذهبت يا سيدى الحرفوش وقدمت شكوتى وبكائياتى وقلت في وجه الجميع "اشمعنى أنا؟" فيبدو أن الرحمة والشفقة قد دبتا في قلب اللواء مدير أمن أسوان الذي طلب من مساعد وزير الداخلية لشئون الأفراد أن يستثنينى في التعيين ك"مُعار" أي مؤقت حتى تأتى فرصة أخرى لا يكون غراب البين مستيقظا فيها. وافقت أنا على هذه الإعارة المؤقتة التي جددت الأمل وشكرت مدير أمن أسوان الذي ينتظر معى رد السيد اللواء مساعد وزير الداخلية بالموافقة. وأنا يا سيدى أكتب لك هذه الرسالة أملا منى أن تروق لها حين تمر عليك من بين الرسائل وتنشرها.. وطلبى منك في حال نشرها أن توجهها للسيد وزير الداخلية ومساعده والسيد رئيس الحكومة عسى أن يحض بعضهم بعضا لقبول حرفوش في صفوف مديرية أمن أسوان التابعة لمعاليهم. وفى النهاية يا سيدى لك منى ألف تحية وسلام ورحمة الله وبركاته !