وسط جموع من الأطفال المشردين الذين لا يكفون عن الصياح والتهليل, وقف الفتى المراهق ينزع عن ذاك الطفل الصغير آخر ما تبقى من ملابسه المهترئة, غير عابئ بدموع بطعم الدم تنهمر على وجنتيه, فهتك عرضه «كسرا لعينه» معلنا انضمام الضحية الجديدة لفريق كبير من ساكنى القطارات المهجورة .. هذه ليست سطور في رواية مأساوية للأديب الإنجليزي الشهير لتشارلز ديكنز, بل صورة واقعية وبث حى لحال المئات من اطفال الشوارع فى طنطا بالغربية, يتخذون من القطارات المهجورة والصهاريج, مأوى يكفيهم شر التشرد, بشر أكبر, يدفعون فاتورته من كرامتهم وأجسادهم.. وإنسانيتهم. «فيتو» قضت أياما فى عالم أطفال «السكة الحديد» ممن يفترشون الأرض، ويلتحفون بالسماء, ويقاسمون الحيوانات أرزاقها التى تحصل عليها من صناديق القمامة فى أحيان كثيرة. أبطال قصتنا هم «سامبو وتوحة وسمكة وشمة», وزعيمهم طفل يافع يشتهر باسم كوارشى لم يكمل عامه الخامس عشر, لكنه قائد لمجموعة من المتشردين, وهو فى هذه السطور يتقمص دور المرشد، ليكشف الكثير من اسرار هذا العالم المثير, بالحكى, وبمساعدة «فيتو» على اختراق تلك المملكة. البداية كانت من خلال مفاوضات استمرت لثلاثة ايام بين محرر «فيتو» وكوارشى وفريقه, فى النهاية تم الاتفاق على ان يكون اللقاء بعيدا عن أعين «المعلمين» الكبار, تحاشيا لتعرضهم للضرب وهتك العرض، جزاء تحدثهم مع «غرباء» فى أمور تخص هذا العالم الغامض. على احد المقاهى البعيد عن ورش السكة الحديد, كشف كوارشى وزملاؤه عن أجسادهم، لتظهر آثار التعذيب والحروق التى يتعرضون لها على أيدى «المعلمين»، الذين يسرحونهم بالمناديل والبضائع الخفيفة من كتيبات ولعب أطفال زهيدة الثمن لبيعها، ثم توريد الإيراد فى آخر اليوم ل «الخزينة» أى جيب المعلم، الذى تحول من طفل شوارع إلى شاب يافع يتكسب رزقه من السرقة والإجرام وتسريح الأطفال. كوارشى يحكي عن مأساته قائلا: اسمي محمد هربت من بيت أسرتى بالإسكندرية بعد وفاة والدتى، وزواج أبى من سيدة عذبتنى، ومنعت عنى كل شيء من اكل وحلوى، وكانت دائما تتهمنى بالسرقة, وكنت حينها فى العاشرة من عمرى, وعندما جئت الى طنطا, استلمنى عدد من الشباب، وساعدونى بالمال كى اشترى «مناديل» لأقوم ببيعها فى إشارات المرور والشوارع, وفى نهاية يومى الأول اخذوا منى ما منحوه لى من مال، وكذلك ما ربحته, ثم جردونى من ملابسى وهتكوا عرضى, وهو اسلوب يتبعونه لكسر عين الضحية الجديدة ليبقى تابعا لهم وينفذ أوامرهم. سألناه عن سر بقائه وزملائه بالورش وعدم رحيلهم لمكان آخر فرد: سافرنا الى أماكن كثيرة فى بورسعيد والاسكندرية ودمياط والاسماعيلية, فلم نجد مكانا افضل من طنطا رغم كل ما يجرى لنا فيها على ايدى زعماء «العصابات» . الى هنا انتهى كلام كوارشى, لكن المغامرة لم تنته, فقد اصطحبنا بطل قصتنا وزملاؤه الى منطقة الورش بطنطا, وهناك رصدت «فيتو» عددا من الاطفال المشردين, احدهم كان يمسك بين يديه علبة صفيح يدس فيها انفه، ويستنشق ما فيها باستمتاع، فقال سامبو انها «كلة», وآخر القى بجسده الصغير مفترشا الارض وكان يغط فى نوم عميق,و ثالث يشهر سلاحا ابيض «مطواة» فى وجوه مجموعة من الاطفال الاصغر منه سنا, فضلا عن رابع فى أواخر العقد الثانى من عمره وقف بين مجموعة من الاطفال, الذين راحوا يرقبونه وهو يهتك عرض طفل لا يتجاوز عمره العشر سنوات, فضلا عن العشرات من الاطفال الذين ينفثون دخان السجائر، وكأنهم مداخن صغيرة تلقى ما بداخلها الى الفضاء.