وسط جو شديد البرودة, تنسحب فيه درجات الحرارة, لتصل عند الرقم واحد بالترمومتر, وقفت و صديقي البدوي فى انتظار «الدليل,» الذى سيأخذنا إلى حيث يعيش شبح سيناء, أو على الدخيل ,أشهر, وأخطر مطلوب أمنى فى شبه جزيرة سيناء, و المحكوم عليه غيابيا, بما يتجاوز الخمسة وثمانين عاما, رغم أن عمره يتجاوز الثلاثين بعامين فقط.. دقائق قليلة أحسستها دهرا , مرت قبل أن تأتينا سيارة ذات دفع رباعي ,سرنا وراءها بسيارتنا ,التى يطلقون عليها فى البادية لقب «مارادونا».. طالت المسافة, و السيارتان تقطعان الوديان , والمدقات الوعرة, وجبال أبو رديس, وسانت كاترين, ووادي فيران, و سعال, بينما الطبيعة الخلابة تتوارى خلف الخوف, الذى سيطر على, ولم يكن يطمئنني سوى كلمة «عمار.. عمار» التى يطلقها الدليل من وقت لآخر, و كأنها كلمة السر, وجواز مرورنا, الى أن انحرفت السيارة التى نتبعها فجأة, و كذلك فعل صديقي البدوي, فلما سألته عن السبب اخبرني أن الطريق مليء بالألغام الأرضية, التى زرعتها إسرائيل قبل خروجها من سيناء.من بعيد لمحت بعينى رجالا مدججين بالسلاح, ينتشرون فوق الروابي, والتلال, فزادت مخاوفي غير أن كلمة «عمار» كانت تتردد على لسان الدليل فيطمئن قلبى نسبيا, الى أن توقفت السيارتان بالقرب من بيت شعر - خيمة بدوية - فترجلنا متجهين نحوه, فيما اخذ صديقي يسرد لى مدونة سلوك لابد من التزامها وإلا.. قال صديقى: لا تكثر السؤال.. ممنوع التصوير والكتابة بالقلم .. سجل فى رأسك ما يدور, ولا تتورط فى جملة تنطقها وأنت لا تعي جيدا ما وراءها, فكل من سنجالسهم بعد قليل صدرت بحقهم أحكام غيابية عديدة. داخل الخيمة وقف الجميع لاستقبالنا.. سلمنا وجلسنا حول ركية نار تعج بها «بكارج» الشاي والقهوة.. و قبل أن نبدأ كلامنا دارت الفناجين , وداخل كل منها القليل من القهوة العربي.. ضاحكا فى هدوء, قال صديقي: دير بالك صاحبنا مدوخ الحكومة.. هنا بادر على دخيل الملقب بشبح سيناء لدى الداخلية رادا فى سخرية تقطر مرارة : من مدوخ من؟!.. للدنيا جينا بلا اختيار , ومنها نخرج بلا اختيار, لكن فى وسطهم نختار!! بسرعة قلت أنا : أنت شاعر؟!.. فقال : الظلم يخلى اللى ما يعرف ينطق أمير الشعراء, و يحول المظلوم لمجرم! فجأة قطع الرجل كلامه, ووضع يده على الأرض, واخبرنا بان سيارة من نوع «تويوتا» قادمة, فقلت له إننى لا أرى شيئا , لكن قبل أن يرد.. بدأنا نستمع لصوت محرك السيارة التى أنبأنا بها.. سألته: كيف عرفت؟!.. فأجاب : حين كنت بالجيش أخدت فرقة استطلاع, وجدي علمني الكثير من علوم الفراسة, هوكان فدائيا. هنا توقفت السيارة, ونزل منها شخصان يحملان السلاح, و لما عرف احدهما اننى صحفي غضب ثم سألني عن رأيى فى المطاريد من أبناء سيناء قائلا: وإيش رأيك فينا.. أنا عندي 33 عاما و ولد عمى 33 وعلي كل واحد منا تأبيدة؟!.. و ساعتها لم أجد ردا, وحاولت تلطيف الأجواء, فقلت له : لا تتحدث وعندنا واحد رتبته أعلى منكم, مشيرا للشبح صاحب ال85 عاما أحكام غيابية, فضحكنا ومر الموقف بسلام. عملى كصحفي دفعني لسؤال «دخيل» عن قصته مع الحكومة - الداخلية - وأسباب مطاردته, وتسميته بالشبح, فقال إن مشكلة عموم أبناء سيناء ,تختصر فى نظرة الدولة لهم, ومعاملتهم على أنهم جواسيس, و خونة ,وإبعادهم عن الوظائف و حرمانهم من كل المزايا, و حكى لى أن «الحكومة» ذات مرة حصلت على منحة أوروبية لتمويل مشروعات للبدو , غير أن كل من فاز بالتمويل كانوا من الوافدين إلى سيناء و ليسوا أبناءها, وكذا الحال فى شركات البترول التى لا يعين فيها البدوي حتى ولو كان أهلا للوظيفة! وعن السبب المباشر فى عداء الداخلية له - كما يقول- أشار دخيل إلي أنه رفض العمل كمرشد للداخلية, ما دفع ضابط شرطة برتبة كبيرة فى عهد الوزير الأسبق حبيب العادلى , لتلفيق تهمة زراعة عدد من الأفدنة بنبات البانجو, ليصدر ضده حكم بالسجن 25 عاما, تلاه حكم مماثل لمرتين الى أن وصل مجموع الأحكام الغيابية بحقه ل85 عاما!! وبسخرية يقول «دخيل»: لفقوا لى التهم, وبعدها راحوا يضيفون تهما من خيالهم.. ساعة انخطف الكوريين قالوا أنا.. و لما أنسرق بنك قالوا أنا.. و الآخر قالوا هذا شبح!! الطريف أن «دخيل» قال لى إنه هو من ابلغ الداخلية, بأمر اختطاف مجموعة السائحين الكوريين قبل تحريرهم, وذلك قبل أن يفجرالقنبلة الأكبر بقوله :إنه رغم القضايا والأحكام الغيابية إلا أن قيادات من الداخلية اجرت معه اتصالا - عبر وسطاء- يطلبون منه تولى حراسة وحماية الرئيس المخلوع حسنى مبارك عقب تنحيه وسفره الى شرم الشيخ, للإقامة فى فيلا حسين سالم, إلا أن الشبح -بحسب قوله, ورجاله رفضوا الأمر, رغم ضخامة المبلغ الذى عرض عليهم للقيام بالمهمة. لم يقطع الغداء الذى احضره الرجال حديثنا فالحوار مستمر, لكن لفت انتباهي ارتداء المجموعة لصديرى شكله غريب, ولما سألت قالوا لى إنه واق من الرصاص, و لم اندهش بعد أن اخبروني أنهم يحتفظون بترسانة أسلحة ضخمة من ال»أر بى جى» و الجرانوف ومضادات الطائرات, و قبل أن ينتهي الحوار الذى استمر لقرابة أربع ساعات, قال الشبح ورفاقه إنهم يتصورون أن يصدر قانون ليسقط كل الأحكام الغيابية فى القضايا الملفقة - على حد تعبيرهم - الصادرة بحق أبناء سيناء.