منذ عام 2003 تتعرض المكونات العراقية الأصغر إلى حملات تستهدف وجودها، وتفاقم الأمر بسيطرة تنظيم داعش على مناطق شاسعة من البلد، كما أن اليزيديين والمسيحيين والشبك والتركمان والصابئة المندائيين باتوا أهدافا معلنة للتنظيم الإرهابي. في برلين اجتمع ممثلو أكثر من 50 منظمة حقوقية مدنية عراقية، ومعهم ممثلون عن حزب اليسار الألماني وعن منظمات دولية حقوقية لمناقشة التطورات المتسارعة المخيفة التي تطال جغرافية العراق وتوزع ساكنيه الديموغرافي. تصدّرت أجندة عمل المؤتمر مأساة اليزيديين وما يتعرضون له في جبل سنجار، ومناطق سهل نينوى والشيخان من هجمات يشنها تنظيم "داعش"، وعرض في قاعة المؤتمر فيلم "الفرمان الأخير" للمخرج اليزيدي نوزاد شيخاني، الذي وثّق بشكل مؤثر تفاصيل الفاجعة. الكاتب والصحفي خيري سنجاري، وصل برلين من منطقة جبل سنجار للمشاركة في المؤتمر، وتحدث إلى DW عن وقائع الهجوم على مدن وقرى اليزيديين في مدن ومناطق جبل سنجار. وفي معرض كلامه، أشار سنجاري إلى "أن مقاتلي "داعش" قد هاجموا القرى، ولم يتصد لهم سوى المدنيين من اليزيديين، فيما انسحب مقاتلو البيشمركة من ربيعة وما حولها، وغادرت مواقعها 4 ألوية دون قتال فيما وصف بانسحاب تكتيكي". وصف خيري سنجاري بالتفصيل جرائم "داعش" بحق اليزيديين، قائلًا: "إنهم قاموا بإعدام كل الذكور ابتداء من عمر 10 سنوات، فيما أخذوا النساء من قرى تل عزير وكوجر، حيث قتلوا نحو 450 رجلا، وأخذوا النساء سبايا ونقلوهم إلى الموصل وتلعفر، حيث أقيم سوق لبيع الإماء والسبايا، وكان لأمراء "داعش" الحق في اختيار 3 نساء كل يوم، وبعد اغتصابهن، يجري بيعهن إلى "جحوش" (مرتزقة) "داعش" الذين تظاهروا في تلعفر مطالبين بتخفيض أسعار الجواري والإماء اليزيديات!" ومضى سنجاري إلى القول إن "سعر كل يزيدية بلغ 800 دولار، وطالب المتظاهرون بخفض السعر إلى 500$!، أما في الفلوجة فقد جرى خفض التسعيرة إلى 12 دولارا أمريكيا للمرأة الواحدة!". وذكر خيري سنجاري أسماء عدد من العشائر العربية في الموصل، إضافة إلى بعض الكرد ممن يتاجرون بنساء اليزيدية، وخلص إلى القول "إن الوجود اليزيدي في خطر، وهم مهددون بالانقراض، ولا يوجد أي يزيدي اليوم في أمان، وكان المسلمون دوما إخوانا لنا، ولكن فجأة وخلال 24 ساعة تحول أشخاص طالما اعتبرناهم إخوانا لنا إلى "دواعش" يقتلون الرجال بدم بارد ويصادرون النساء ويغتصبونهن ثم يسترقونهن كخادمات، ونخشى إذا ارتبك الوضع في كردستان أن يتحول الكرد المسلمون بدورهم إلى "دواعش" يفتكون بنا". وتابع: "وما زالت أعداد غفيرة من اليزيديين محاصرة في جبل سنجار، وقد اضطر النساء والأطفال وكبار السن فيهم إلى أن يأكلوا عشب الأرض والحنطة النيئة ليبقوا على قيد الحياة". فيما تحدثت مصادر عدة ومنها الناشطة الحقوقية والكاتبة اليزيدية عالية بايزيد إسماعيل، عن 3000 امرأة يزيدية معتقلات في سجن بادوش بالموصل الذي يديره عناصر من تنظيم "داعش"، مؤكدة أن أخبارهن كانت تصل العالم عن طريق أجهزة هاتف خلوي نجحن في إخفائه عن عناصر "داعش"، لكن الهواتف اكتُشفت وصودرت فانقطعت أخبارهن. وناشدت الناشطة عالية بايزيد، المجتمع الدولي ومنظماته الالتفات إلى مأساة "شعب يتعرض للإبادة والاستعباد على نهج القرون الوسطى ونحن نعيش في عصر حقوق الإنسان والعولمة؛ حيث العالم متصل ببعضه ولا يخفى فيه شيء". واستهدفت مناطق تلعفر وبعض قرى سهل نينوى التي يقطنها الشبك والتركمان، وهما مكونان ينتميان في الغالب إلى الطائفة الشيعية، وقد قتل عناصر "داعش" رجال الشبك ونهبوا أملاكهم وأموالهم. وقال الناشط الحقوقي يوسف محرّم سلمان، ممثل رابطة مثقفي الشبك في ألمانيا، ل DW: إن الضوء لا يسلط في الغالب على مأساة الشبك، مضيفًا: "ما تعرض له الشبك لا يقل قسوة وظلما عما تعرض له اليزيدية والمسيحيون، لاسيما أن عناصر "داعش" يضعون الشبك في صف الكفار لأنهم شيعة ويحلون قتلهم ومصادرة نسائهم واسترقاق أطفالهم". وكشف الناشط الحقوقي الشبكي، أن ما يزيد عن 300 ألف من الشبك قد هجروا، وسلبت ونهبت أملاكهم، وقد أفرغت مناطق الشبك الأصلية من سكانها، ومنها على سبيل المثال قرية بازوايا التي تملك أسطولا كبيرا لنقل النفط (من الصهاريج) التي أفرغت من سكانها، وقرية بوغجلي التي تمتلك ثروة كبيرة من المواشي التي استولى عليها تنظيم "داعش" وقدمها كأضاحٍ هدايا لسكان مدينة الموصل، كما نقلت قطعان كثيرة منها إلى مدينة الرقة في سوريا. وكشف سلمان أن "داعش تستقدم تجار حرب من سوريا، وتبيع لهم أملاك الشبك بأسعار بخسة، وقد باعوا قرية بازوايا بكل محتوياتها من بيوت وصهاريج نفط إلى تجار من سوريا بسعر 12 ألف دولار فقط!". ونسف تنظيم "داعش" مزارات وحسينيات ومساجد تعود للشبك، بعضها ترقى أعمارها إلى عهود قديمة، ويواجه الشبك أسوة بباقي المكونات الصغرى في العراق، مصيرا مجهولا، والى ذلك أشار الناشط الحقوقي الشبكي كاشفا "أنهم يواجهون خطر الانقراض، ما لم يتم إنقاذهم من حيتان المكونات الأخرى، وإذا نظرنا إلى الشبك في جنوبالعراق، فإن مستقبلهم سيكون الذوبان في المكون العربي واختفائهم من خارطة البلد الديموغرافية، ومن الموزائيك العراقي". لطالما كان المسيحيون في العراق حمائم سلام تنأى بنفسها عن الخلافات السياسية التي خيمت على البلد على مدى قرون طويلة، ومن حيث العدد يمثل المسيحيون أكبر مكوّن بعد المسلمين، وقد شارك عدد من ممثلي منظمات المجتمع المدني المسيحية في ملتقى برلين ومنهم مسئول العلاقات العامة لمنظمة حمورابي لحقوق الإنسان الناشط وليم وردة، الذي كشف في حديثه مع DW، أنّ "المسيحيين هم أقلية بموجب معايير الأممالمتحدة، رغم ما في هذا الوصف من انتقاص من قيمة المكون المسيحي، كما أن الدستور العراقي استخدم وصف مكوّن لتحديد وضع الأقليات". وأكد وردة أن وجود الأقليات في العراق مهدد، مشيرا إلى أن مناطق الأقليات والمسيحيين على وجه الخصوص عانت من إهمال واضح وتهديد مستمر حتى قبل دخول "داعش"، كما أن التنمية في هذه المناطق والمشاركة السياسية كانت ضعيفة جدا، كما أن المناهج الدراسية التي تقرها وزارة التربية فيها إهمال واضح للدور الوطني للأقليات ولثقافتها ودينها وتاريخها، والحقيقة أن هذا قد أورث المكونات الكبيرة جهلا تاما بالموروث الثقافي لهم. وأشار وردة إلى أسماء شخصيات من المسيحيين تركت أثرا واضحا في العراق، "لكن مناهج المدارس لا تشير قط إلى هذه الحقائق" - على حد وصفه. وعزا وليم الوردة، ذلك إلى جهل النخبة السياسية في أصول بناء دولة مدنية حديثة، معتبرا "أن كثيرا من النخب ترى في التنوع عامل ضعف، في حين أن التنوع عامل غنى". وأشار الناشط الحقوقي المسيحي، إلى أن ما تقوم به "داعش"، وما سيتبعه من هجرة الأقليات وعلى الخصوص المسيحيين، سيقود إلى "تصحّر العراق ديموغرافيا، قائلا: "إذا لم تكن هناك معالجة حقيقية لوضع المسيحيين، فإن مصيرهم في العراق سيكون كمصير اليهود، وستصبح كنائسهم أطلالا، وستكون بيوتهم ومدنهم وقراهم مجرد جزء متوار من الذاكرة العراقية". وتقدر بعض الإحصاءات، أنّ الصابئة المندائيين شكلوا في مقطع من تاريخ العراق أقلية بلغ تعدادها نحو 100 ألف إنسان، وهم يحترفون في الغالب مهنة صياغة الفضة والذهب، ومناطق وجودهم الأصلية هي السهل الرسوبي جنوبالعراق، ويعتبرون أنفسهم بقايا الآراميين، ويدينون بديانة قديمة ويملكون كتابا مقدسا ويعدون النبي يحيى نبيهم الذي يتبعون، شعب مسالم ارتبط وجوده بمجرى الرافدين في العراق. وتضاءلت أعداد الصابئة المندائيين منذ أكثر من عقدين بشكل ملحوظ، وبعد سنة 2003، تسارعت وتيرة هجرتهم وتهجيرهم من العراق حتى بات عددهم يقدر بخمسة آلاف نسمة، وهم يعلنون أنهم في طريقهم لمغادرة البلد، لاسيما أن الجماعات المسلحة تعتبرهم وثنيين. وكشف الصحفي والفنان المندائي موسى الخميسي، شارك في مؤتمر برلين، في حديثه مع DW، أنّه يرى الوضع في العراق "مظلما ولاسيما وضع الطائفة المندائية، فجميع الأقليات تمتلك سندا ودعما من خارج العراق يسند وجودها في داخله، إلا المندائيين، فهم بلا سند خارجي، لذا فقد بدأت طائفتهم تتفتت في العراق في السنوات الأخيرة، وبدأ وجودهم داخل العراق يضمحل، هذا الوجود كان قد بلغ قبل عام 2003 نحو 75 ألف مندائي، تراجع اليوم ليصبح 5 آلاف مندائي". وخلص الخميسي إلى القول: "في تقديري أنّ الوجود الصابئي في العراق خلال عشرين أو ثلاثين سنة سينتهي بشكل كامل". والناشط نهاد القاضي، أمين عام هيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب في العراق، وهو من ضمن الهيئة التحضيرية لمؤتمر برلين، رأى أن "الحل الوحيد لمشكلة انتهاك حقوق الإنسان، وحقوق المكونات الصغرى يكمن في إعادة الثقة بين المكونات الصغرى من جانب، وبين حكومة المركز وحكومة إقليم كردستان من الجانب الآخر"، وذهب القاضي إلى أنّ "الوضع يمر الآن بمرحلة أزمة ما بعد الأزمة، والمكونات بدأت تفقد الثقة في حكومتي المركز والإقليم". هذا المحتوى من موقع شبكة ارم الإخبارية اضغط هنا لعرض الموضوع بالكامل