المشهد الأول: نهار داخلى في زاوية من زوايا الغرفة، وعلى مقربة من شعاع نور وحيد يتخلل من شباك قديم لا يُفتح إلا لالتقاط أنفاس الصباح، يرابض أحدهم كل ليلة، يجلس القرفصاء ويتابع بحذر كل التفاصيل، ربما خيالًا من بعيد، أو وحوش رسمتها شقوق الجدران، وسحابات وطيور منقوشة على السقف، وساعة قديمة ببندول يتمايل بخفة بين اليمين واليسار، في المواجهة تمامًا، لا يُسْمع منها إلا صوت دقات عقرب الثواني. يمُد يده باتجاه الجرامافون، ويدير اسطوانته على موسيقى "فالس" هي كل ما تبقى من سلسلة اسطوانات قديمة عفا عليها الزمن وجار، يحرك رأسه بهدوء على أنغامها، وتدريجيًا يفتح ذراعيه كأجنحة طير تتمايل في سماء الربيع الصافيّة، حتى تفاجئه إحداهن بحضور ينتظره كل ليلة، تسحبه برقة من مجلسه ليقف في مواجهتها تمامًا، المشهد الثانى: نهار داخلى أنا اسمى يوسف المنسى درويش. باباك اسمه المنسي؟ لأ، أبويا درويش، أنا اسمى لوحدى يوسف المنسي. باباك ليه سماك اسمين!، ليه ماسماكش يوسف بس؟ كان خايف عليا من الحسد، بس الله يرحمه بقى مكانش يعرف إن الاسم ده هيكون حالى طول العمر. فاصل المنسيّون عادة لا يريدون شيئًا من أحد، ولا يبحثون عن ضالتهم كما يبحث الواقعيون عن نفوسهم الضائعة بين عتمة الأحداث وظُلم السيّد، فقط، يملكون عالمهم الخاص بمفاتيحه. أحلامهم معنيّة بكل ما يفتقرون إليه، يتمتعون باكتفاء ذاتى داخل أعماقهم يمكنهم من احتمال العيش، ويضمن لهم ابتسامة رقيقة على الوجوه، وسعة صدر تحتوى كم الهموم والمحن. ربما يجدون الحياة بين سطور كتاب، أو في موسيقى تداعب أرواحهم، أو لا يحتاجون لهذا أو تلك مكتفين بخيالهم. فردوسهم ليس مفقودًا بحسب «أحمد مجاهد العرب»، ونعيمهم في قلوبهم الحالمة، النابضة بالأمل المتجدد كل ليلة، حتى لو حاوطتهم الأشباح من جميع الاتجاهات، أو رافقتهم الكآبات أينما وجدوا. لا يضيّعون أوقاتهم في النوم، ولا يرفضون دعوة للرقص في ليلٍ هادئ يخشى ظلمته الخائفون. المشهد الثالث: ليل داخلى أنت سعيد؟ أنا سعيد أوي. مبتزهقش لوحدك؟ ما أنا قولتلك أنا عمرى ما بكون لوحدي، أنا بحلم على طول، أنا أي حاجة أحبها أحلمها، كلت أحسن أكل، لبست أحسن لبس، نمت على أنعم فرش، سافرت في قصور وفيلل، اشتغلت وظايف كتير، اشتغلت دكتور، مهندس، قاضي، ظابط اشتغلت في وظايف حساسة، اشتغلت في أمن الدولة، قعدت سنة في المخابرات، اشتغلت وزير مواصلات، لغاية ما كبرت في دماغى ورحت قاعد على الكرسى الكبير. فاصل المنسيّون لا يخافون الوحدة، ولا العتمة، يعرفون طريق الونس، وينسجون من خيالهم قصة جديدة كل ليلة، إما سهرة مع صديق حميم في أجمل بقاع الأرض، أو رقصة مع حورٍ عين. يكسرون كل الثوابت، ولا يؤمنون بالروتين، فأحلامهم متجددة، وأمورهم لا تخضع لحسابات المنطق والمعقول. أينما وَجَدُوا سعادتهم طَرَقُوا أبوابها، دون رهبة أو خوف من مجهولٍ خلفها. يكتشفون العالم من جديد كل ليلة كطفلٍ شغوف بنظرته الأولى لعلبة ألوان، لذلك لا يملون أبدًا، ولا يكرهون أحلامهم، ولا يسعون لتحقيقها في واقع يفسد عليهم أوقاتهم، فما أنجزوه داخل نفوسهم كافٍ لتحمل عناء الرحلة. المشهد الرابع: ليل داخلى أنا أي واحدة تعجبنى أتجوزها علطول، بس لعلمِك بقى أنا ما أتجوزش أي حد، الحريم بتوعى دايمًا تلاقيهم ستات من اللى هما، تعرفى ليلى علوي؟ آه طبعًا. اتجوزتها يومين. بس اللى أعرفه يعنى إنها ما اتجوزتش لحد دلوقتي! أصل أنت مش واخدة بالك، أنا الجواز بتاعى سهل أوى، أنا أختار العروسة وأحطها ف دماغي، وأبص في الضلمة اللى أدامى دي، وأتجوز بقى على كيفي. فاصل المنسيّون لا يخشون السلطة، ولا القمع، يجيدون ممارسة الحرية بكل أشكالها، دون قيد أو شرط، هم بالأساس لا يؤمنون بالحاكم ولا قوانين الدولة. يعرفون أنهم مهما اهتموا بالشأن العام، لن يهتم أحد بشئونهم، ولن تعيرهم السلطة اهتمامًا يستحقونه، لذلك آمنوا بوحدتهم، وتعايشوا مع عزلتهم حتى أدمنوها وأتقنوا أدواتها، فباتوا يمارسون طقوسهم اليومية بمفردهم، دون وصاية أو تحكم. نزعوا فتيل الخوف من صدورهم، وبنوا مدنًا من زهور لا يسكنها الحقد والغل، ولا أصحاب النفوذ. المشهد الخامس: ليل داخلى مشكلتك أنت وأمثالك من الهاموش والهلافيت اللى بتيجى عليهم لحظات بيتصوروا إنهم حاجة، الحقد والغل اللى جواكم هو اللى بينفخكم ضد أسيادكم، لكن لأنكم جهلة، مغرورين، مش قادرين تفهموا إن طبيعة الكون نفسه لا يمكن تديكم الفرصة أبدًا إنكم تفسدوا علينا حياتنا يا جرابيع، الحقد اللى جواكم لا يمكن يغير نظام الكون. حقد إيه وكون إيه!، أنا مش فاهم أنت بتقول إيه!، أنا عمرى ما طمعت في حاجة مش بتاعتي، وعمرى ما أخدت حاجة منكم، لا بالرضا ولا حتى بالعافية. المشهد السادس: ليل داخلى إيه ده يا منسي؟ إيه اللى عمل فيك كده! هم طلعولك! طلعولك؟ رد عليّ يا منسي، رد عليّ ماتسبنيش. ماتسبنيش يا منسي. يااااا منسي.