يرى الثقات من أهل العلم والاختصاص أن الإسلام لم يشرع الجهاد إلا لرفع العدوان عن النفس والمال، ودفع الطغاة وعدم الاعتداء على الآخرين، والابتعاد عن خيانة الوطن، ونكث العهود وبيع الضمائر وهو فرض عين، فحياة المسلم كلها جهاد في عبادته لله، وعمارته للأرض، وتزكيته للنفس الإنسانية، ودفاعه عن حقوق العامة. ومن خلال قراءة آيات الجهاد في القرآن الكريم يتبين لنا أنه لا يجوز اكراه الناس على أي عمل يتنافى ومفهوم الحق والعدل وحرية الإنسان، لذا فالإسلام لم يتبع أيا من أنواع العنف الداخلي أو الخارجي وبنوعيه الفكري والسياسي على عهد الرسول الكريم، والقرآن الكريم يقول: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن يرجو الله واليوم الآخر". إن أساس الجهاد في الإسلام إذن هو محاربة الطغيان وتحقيق حرية الكلمة والتعبير عن الرأي وسواسية الناس أمام القانون، وفي هذا السبيل يقول الحق: "فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، ومن يقاتل في سبيل الله فيقتَل أو يَغلِب فسوف نأتيه اجرًا عظيما"، فالجهاد هنا مجاهدة النفس لوضعها في خط الاستقامة ودرء خطر الاعتداء على الآخرين. وبما أن كل مراحل الدعوة في عهد الرسول قامت على عبارة واحدة فقط هي: "خلوا بيني وبين الناس ولا تنقلوا عني غير القرآن" فالمشكلة كانت تكمن في طغيان قريش وعدم قبولها للحوار الفكري واصرارها على القتال، لذا لا بد من محاربتها والانتصار عليها صونًا للحرية وردًا للطغيان وتحقيق هدف الآية الكريمة: "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر انا أعتدنا للظالمين نارا "، ولم يقل سبحانه وتعالى: "للكافرين نارا"، لأن الظلم يمارس من الكافر والمؤمن على حدٍ سواء والاية "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين "، ولذلك فإن استعباد الناس محرم شرعا وقانونًا حين جعل حرية الاختيار والتعبير هما الأساس فلا يوجد في الإسلام مُسلم وكافر إلا بمقياس احترام إنسانية الإنسان وحقوق الآخرين، لذا فالدعوة المحمدية كانت إنسانية مدنية قبل أن تكون دعوة دينية.. هذا هو العمود الفقري للجهاد الداخلي في الإسلام ممثلا بالحصول على اعتراف الاخر كندٍ، فلو طرحت حاكمية الله بموجب ما طرحته الدعوة المحمدية لقبل بها حتى الملحد، ولشعر بحرج شديد في الوقوف ضدها، وبذلك نكون قد وضعنا ايدينا على النقطة الجوهرية في الطروحات السياسية وأعطينا للإسلام وجهه الحقيقي الصحيح. اما إذا فهمنا أن حاكمية الله تعني الحكُم المطلق في كل صغيرة وكبيرة من الدشداشة القصيرة إلى السواك إلى التأليه والتقديس والشعائر الدينية المغالى فيها وأكراه الناس بما لا يرغبون به، كما تروج لها المنظمات الإسلامية المتطرفة والمتشددة في غالبية المذاهب الإسلامية، فقد وقعنا في فخ الطاغوت، وهذا ما نراه الآن عند غالبية الفرق الإسلامية دون أستثناء. ونتيجة لهذا الاتجاه الخاطئ في فهم آيات الجهاد طمست عزيمة الجهاد من الناحية التاريخية وتم ربطها بالسياسة والسلطة الزمنية منذ بداية الفتوحات الإسلامية على عهدي الأمويين والعباسيين حين لم يُفرق بين الجهاد والقتال، لذا كلما تهددت السلطة عمدت إلى حل تناقضاتها بتوجيه الناس نحو الحرب الذي سمته جهادًا، لكن الإسلام لا يجيز أبدا قتل المواطنين بالتفجيرات، ومن يتجاوز على الحرمات فهو والمحتلون في الميزان سواء.. فالجهاد ضد الاحتلال وأعوانه وليس ضد الناس الآمنين. إن من غير الصحيح الاكتفاء بدرس ظاهرة العنف ومظاهر الخلط بينه وبين الجهاد ضمن الإطار الفقهي، فهو لاشك في أزمة بحاجة إلى توضيح، لا سيما وان ظاهرة العنف هي ظاهرة عالمية لا تقتصر على الاصولية الإسلامية فحسب، لكن ارتباط المنظمات الإسلامية المتطرفة بها يعود إلى فهم خاطىء في مفاهيم الجهاد الإسلامية حين دمجوا العنف بالجهاد ولم يتركوا للحوار مكانة خاصة أن الحس الديني العالي لهذه الجماعات وتكوينها النفسي والفقهي الخاص بهم اشعرها بالتهديد المستمر الذي لا بديل عنه الا العنف والالتزام به، ناهيك عن العوامل الاخرى الخاطئة في مفهموم تأويل النص الديني وقراءته قراءة أحادية صرفة وفق نظرية الترادف اللغوي الخاطئة في التفسير. لاشك أن هناك فرقًا واضحا بين الجهاد والعنف، فالأول يتميز بوضوح الهدف ووضوح الوسيلة والالتزام بأحكام الشرع ومكارم الأخلاق التي جاء بها الإسلام، قبل القتال وأثناء القتال وبعد القتال، هذا الشرط لم يتوفر حتى عند الفتوحات الأولى للمسلمين، ولكل منه شروطه الدينية والأخلاقية، فلا قتل للبشر، ولا قلع للشجر، ولا تدمير للثروة والموارد، وضرورة الخلاص من فكرة مقاتلة الكفار سواءً حصل الاعتداء منهم أم لم يحصل، ولا رق ولا إماء ولا عبيد كما حصل بعد كل فتح جديد، كما هو في مفهموم نظرية التشدد الحالية، مستندين إلى قول الإمام الشافعي: "الجهاد فريضة يجب القيام به سواءً حصل من الكفار اعتداء أم لم يحصل".. وهذا التوجه يتعارض مع نص الآية الكريمة: "أدعُ إلى سبيلِ ربك بالحكمةِ والموعظة الحَسَنة وجادلهم بالتي هي أحسن أن ربكَ هو أعلمُ بمن ضَل عن سبيله وهو أعلمُ بالمهتدين"، والإجماع على أن الجهاد هو في سبيل الله واعلاء كلمته وليس بسط سلطة الإسلام على الناس بالقوة وهنا مكمن الخطأ، ولنا في آيات الجهاد ما يثبت ما نقول. لكن ما يدعيه الفقهاء بأن أية السيف المتمثلة بالآية الخامسة من سورة التوبة قد نسخت أكثر من 120 آية من أيات الجهاد هو اعتداء منطقي على الايات القرآنية، علما أن النسخ لم يكن قد جاء في الايات القصار وأنما جاء في الرسالات المتعاقبة من موسى عليهما السلام بحسب الشيخ محمد الغزالى في كتابه: "كيف نتعامل مع القرآن ؟". أن آية "لا أكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، تتقاطع مع شعار الفتوح المعلن عند البلاذري في كتابه فتوح البلدان: "أسلم تسلم لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم، وان لم تسلم تدفع الجزية نظير حماية الدولة لك"، فقد وضعت أن الاية الكريمة وضعت سُنة لكل الناس دون تمييز في الحرية الدينية والمدنية دون أكراه، لأن الحرية هي هبة الله إلى الناس، وليست هبة أحد من الناس، فاذا تتبعنا آية الجزية في سورة التوبة يقول الحق: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الاخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين آوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون" فالأية الكريمة ليست عامة، بل وضعت شروطا دقيقة لتطبيقها عمليًا حين لا يكونوا من المؤمنين بالله واليوم الاخر، ولا يحرموا ما حرم الله ورسوله، كقتل النفس الإنسانية بدون جرم مرتكب، وان يبدأوا هم بقتال المسلمين بدلالة الاية عن يدٍ وهم صاغرون. الديانات المنزلة كلها تؤمن بالله واليوم الاخر، ولا تؤمن بقتل النفس الإنسانية بدون سبب مبرر، لذا فأن تفسير النص يحتاج إلى اعادة نظر في قراءته، وما يعزز هذا الراي ما ورد بنص الاية الكريمة يقول الحق: (أن الذين أمنوا بالله واليوم الاخر والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الاخر وعمل صالحًا فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، فشرط الآية هو الأيمان فقط، وهم مؤمنون بنص الآية الكريمة. أما العنف كما تمارسه بعض الجماعات المتزمتة التي تنسب إلى الإسلام كما في القاعدة وطالبان وبوكو حرام وداعش والسلفية المتزمتة، فينقصه الوضوح في الرؤية وقصور الأهداف وخطأ الوسائل ومخالفة الضوابط الشرعية، ويعتبر إرهابا وحربا على الله ورسوله. وإجمالا.. فإن تفسير أيات الجهاد بالمنطق السلبي كلف الإسلام والمسلمين ارواحًا ومالًا وسمعة عند غير المسلمين، وتسبب في وصم الإسلام بما ليس فيه كذبا وبهتانا.