ألم تسألوا أنفسكم.. لماذا تثرى هذه العصبة كل هذا الإثراء والكثيرون منكم فقراء؟ ألم تسألوا أنفسكم من أين خرجت هذه الأموال الهائلة التى اكتنزها الملك «بلبروس» وحاشيته فى هذا الزمن القصير؟ ألم تفطنوا إلى أنها من دمكم أنتم دون أن تشعروا، لأنهم كانوا مهرة فلم يصخبوا أو يعنفوا، بل وخزوا جلودكم بإبرة، ثم جعلوا يمتصون دماءكم فى صمت، إلى أن خدروكم ورشوا زعماءكم، وغمروكم فى هذا الخمول الذى تعيشون فيه الآن.. فهل أنتم راضون؟! بهذه الكلمات رسم الأديب الكبير توفيق الحكيم (9 أكتوبر 1898 - 26 يوليو 1987) مشهد المحاكمة لنظام أغرق البلاد فى حياة سياسية راكدة، ثم يسدل الستار على مسرحية «براكسا أو مشكلة الحكم» بمشهد لاندفاع الشعب «كأنه البحر الثائر»، «إلى قصر الدولة هاتفاً: فليسقط الحمقى واللصوص»، ويتركنا صاحب النص مشدوهين أمام تشابه قصته مع ما رأيناه فى شوارع القاهرة فى أيام ثورة يناير، رغم أن هذا النص أبصر النور فى عام 1954 . وعلى خلفية هذا الحدس الفنى ، ذهبنا إلى توفيق الحكيم ،الذى فارقنا قبل نحو ربع القرن ، نحتفى معه بالثورة ، ونتحدث معه عن الأحداث الساخنة ، التى يموج بها المشهد المصرى الراهن ، بكل ملابساته وإشكالياته وتفاصيله ، خاصة بعد الثورة. فى البداية ، وعلى غير عادته .. وجدنا الحكيم هاشّا باشّا مبتهجا ، عندما التقانا ، وطلب منا أن ننقل تحياته لشباب الثورة العظيم ، الذى أسقط « السلطان الحائر « من فوق عرشه ، الذى ظن أنه سوف يورّثه ، وأطاح ب «أهل الكهف « من ظلمهم وضلالهم. كما بدا الحكيم سعيدا ب « ثورة الشباب «، و«عودة الروح» لشعب خضع واستكان للظلم عقودا متتالية ، فيما كان يردد بعض الموتى ، على مقربة منا ، عبارات حماسية على غرار: « الموتى سعداء ..بإسقاط النظام»...فإلى نص الحوار ، الذى ننقله بكل دقة ، حيث اشترط «الحكيم» تسجيل الحوار ، حتى لا نحرّف كلماته عن مواضعها!! - «فيتو»: فى كتابك « ثورة الشباب»، الذى صدرت طبعته الأولى فى العام 1975..قلت :»كل ثورة دليل حيوية.. والشباب هو الجزء الحيوي في الجسم؛ فلا عجب أن يقوم الشباب بالثورة ..فهل توقعت يومئذ الثورة؟ « الحكيم» :بالطبع .. و على الرغم من أن الكتاب صدرت طبعته الأولى عام 1975؛ فإن بعض أجزائه تعود إلى عام 1947..و لم يكن ما أكتبه مجرد كلام عام يمكن أن يُحمل على عدة أوجه؛ بل أقرب إلى النبوءة..باختصار كان يوم 25 يناير نصا مسرحيا تركته لكم ولكنكم لم تفيقوا له إلا فى هذا التاريخ ومراجعة ماكتبته يبرئ ساحة شبابنا من تهمة التدريب بالخارج ولكنه لايبرئهم من كونهم لصوصاً سرقوا نصوصى وقاموا بالثورة دون الاشارة الى مصدر معلوماتهم وأنا من قلت: إن ثورة الشباب ستكون سلمية بلا عنف، وأنها ستكتسب زهواً في البداية؛ مما يجعل البعض يعتبرها أعظم ثورات التاريخ قبل أن يضعها التاريخ في سياقها الطبيعي لتطور أي أمة، وأنها ستُجابَه بثورة مضادة تؤدي إلى العنف، وأن الثورة ستلجأ إلى عنف الهوجة لاقتلاع كل ما قبلها؛ فتصبح بدايتها بداية كل خير وتاريخها هو تأريخ لكل شيء؟! - «فيتو» : ربما لأنك عاصرت ثورات أخرى تولد لديك هذا الإحساس؟ - «الحكيم»: أراك .. تريد التهوين من كتاباتى ، وهذه بداية غير مبشرة ، قد تُعجّل بإنهاء الحوار مبكرا !! - «فيتو»: هذا غير صحيح ، ولكنى أستفسر ؟! - « الحكيم» : إذن عليك أن تكون أكثر تأدبا ، فأنت تحاور توفيق الحكيم ، أم أن الثورة أفسدت أخلاق بعضكم؟ - « فيتو» : ولكنك ميزت بين أمرين هما : الثورة والهوجة..هل تذكر؟ - «الحكيم..منفعلا» : هذه آخر مرة أذكرك بالتأدب فى توجيه كلماتك ، فإذا لم أذكر ما كتبته فمن إذن سوف يذكره ..مثلك؟! - « فيتو» : أنت تجبرنى على الأسف المتكرر على أمور لا أقصدها ، على أى حال ، أعتذر ! - « الحكيم» : الهوجة تقتلع كل ما أمامها دون تمييز؛ بينما الثورة تبقى حريصة على إبقاء النافع وتقضي على القديم المتهافت، وإن كانت الثورة قد تضطر لأساليب الهوجة لانتزاع كل ما قبلها؛ لئلا تتكالب عليها عناصر الماضي لإخمادها، ولكن بعد ان تؤتى الثورة ثمارها يجب على الشعب أن يساند حكومته فى إصلاح أخطاء الماضى ، وليس البحث عن مصالح فئوية. «فيتو»: شاركت في ثورة 1919 وقُبض عليك واُعتقلت بسجن القلعة.. هل لو بقيت على قيد الحياة إلى الآن لشاركت فى ثورة 25 يناير؟ « الحكيم «: بحكم السنين ، فإنى لو لم أمت حتى الآن ، فإن عمرى يكون 114 عاما ، ومن ثم لن أخدعك ، وأصنع صنيع الذين قفزوا على الثورة ونسبوها إلى أنفسهم ، ولكن أغلب الظن كنت أحرض على الثورة . «فيتو»: كيف ؟ « الحكيم»: من خلال مقالى فى الأهرام ؟ - « فيتو» :مستحيل .. يا حكيم ، فالأهرام فى عهد أسامة سرايا ، كانت تسبح بحمد الرئيس السابق والوريث والهانم ، كما أنها طردت كاتبا محترما مثل: فهمى هويدى بسبب أطروحاته الجريئة ؟ - «الحكيم»: وهل جلس هويدى فى البيت ، هل جف قلمه ، هل سكت عن الكلام المباح وغير المباح؟ - «فيتو» : لم يسكت الرجل ، وصدح بكلمة الحق فى عديد من الصحف ، ولكن غير الحكومية. - « الحكيم» : كنت سأصنع صنيعه ، فالحكيم لم يكن يوما جبانا ، واسأل أصدقائى الموتى! - «فيتو»:وماذا كنت ستقول وتكتب؟ - «الحكيم»: كنت أسأل المصريين : ألم تسألوا أنفسكم.. لماذا تثرى هذه العصبة كل هذا الإثراء والكثيرون منكم فقراء؟ ألم تسألوا أنفسكم من أين خرجت هذه الأموال الهائلة التى اكتنزها الرئيس وحاشيته فى هذا الزمن القصير؟ ألم تفطنوا إلى أنها من دمكم أنتم دون أن تشعروا، لأنهم كانوا مهرة فلم يصخبوا أو يعنفوا، بل وخزوا جلودكم بإبرة، ثم جعلوا يمتصون دماءكم فى صمت، إلى أن خدروكم ورشوا زعماءكم، وغمروكم فى هذا الخمول الذى تعيشون فيه الآن.. فهل أنتم راضون؟ومتى ستثورون وتنتقمون لأنفسكم وتستعيدون حقوقكم المنهوبة من الحمقى واللصوص ، الذين يحكمونكم. - فما رأيك فى حال القضاء ؟ - «الحكيم»: يجب أن يعلم القضاة وغيرهم أنهم ليسوا ملائكة أو معصومين من الخطأ أو الزلل، وبالفعل ، بعد الثورة يجب تطهير القضاء ، ويجب فصل القضاء عن وزارة العدل، وعدا تعيين أبناء القضاة فى السلك القضائى ، ومن تحديدا أصحاب التقديرات الضعيفة «منفعلا.. «أمال الثورة قامت ليه «؟!! «فيتو» :عاصرت فترة انحطاط الثقافة المصرية (كما كنت تسميها ) في الفترة الممتدة بين الحرب العالمية الثانية وقيام ثورة يوليو 1939 – 1952، وهى المرحلة التي وصفتها في مقال لك بصحيفة «أخبار اليوم» ب «العصرالشكوكي»، نسبة إلى محمود شكوكو.. هل بلغك ما وصل إليه حال الفن المصرى ، وتحديدا السينما والغناء؟ - «الحكيم.. «متأففا.. وماطّا شفتيه « : أصدقائى من الموتى الجدد أبلغونى بأن الحال غدت فى الحضيض ، بعد أن اقتحم مجال الفن بائعو الكرشة واللحمة والمكوجية « وكل اللى مالوش شغلانة». ولو قورن ما كان يقدمه شكوكو بأغانى شعبولا و»الواد اللى اسمه سعد الصغير» ،و» الواد اللى مطلع شعر صدره على طول «، يبقى شكوكو ده «نجم الكون»، « مش نجم الجيل واللا الجير «!! - «فيتو»: وبالنسبة للسينما...؟ «الحكيم»: لم تعد فى مصر سينما حقيقية ، رغم الطفرة الكبيرة التى شهدتها صناعة السينما ،هل من الممكن أن تصنف أعمالا سخيفة ، مثل : « خالتى فرنسا ، حاحا وتفاحة ، واتش دبور « أفلاما ؟ .. هذا مستحيل ، وضد المنطق . « فيتو»: ولكن مؤلفى هذه الأفلام – تحديدا – يرون فى أنفسهم ، ما كان يراه المتنبى فى نفسه! «الحكيم»: لأنكم أصبحتم فى زمن الرويبضة .. عارف معنى « الرويبضة «.. واللا تقوم تمشى؟! « فيتو»: مهلا .. يا حكيم ، أنا لا أدافع عنهم ، بل أرصد واقعا . - «الحكيم» : يبدو لى أنك ماكر ، لأنك «تلف وتدور» بعيدا عن سؤالى لك! - «فيتو»: أى سؤال.. تقصد معنى الرويبضة؟ - «الحكيم» : نعم .. ووالله إن لم تجب ، فسوف أُنهى الحوار ، وأبلغ رئيس التحرير، بجهلك ، وألا يكلفك بمثل هذه المهمة مرة اخرى ، حتى لا تزعج أمثالنا فى موته ، فالموت أفضل من محاورة الجهلاء! فيتو: فتهدء يا «حكيم».. فالرويبضة هو الرجل التافة يفتى فى أمر العامة. - «الحكيم» حسناً. «فيتو» : كنت تغضب من الأجور المرتفعة للاعبى الكرة قبل أن تموت ، هل تعرف كيف وصل بها الحال الآن؟ - «الحكيم» : أسمع كثيرا من الموتى الجدد عن لاعبين محليين مثل : أبو تريكة ، وعالميين مثل : ميسى ، وأعلم أنهم يحصلون على الملايين مقابل الركض والجرى ،وأنا قلتها قبل موتى :»انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم.. فقد يحصل لاعب كرة واحد في سنة واحدة ما لم يأخذه كل أدباء مصر من أيام اخناتون». «فيتو» : أما زلت عند رأيك فى النساء ؟ - «الحكيم»: ليس للنساء عمل في الحياة سوى الحب، أما حياة الرجل فهي حب العمل ، والجمال هو العذر الوحيد الذي يغفر للمرأة كلّ تفاهاتها وحماقاتها. «فيتو» : أشكرك يا «حكيم « على هذا الحوار ، وعذرا إن كنا أزعجناك فى موتك ! - «الحكيم «: مثلك خُلق لإزعاج الناس ! «فيتو»: لن أرد .. وأكرر شكرى لك ، وإن بدا لى أنك ما زلت حريصا ، حتى بعد موتك ، فخلال 4 ساعات متواصلة لم تقدم لنا كوبا من الماء ! - «الحكيم»: حقا .. إذا لم تستح فاصنع ماشئت ، أنت الذى كان ينبغى عليك أن تجلب لى شيئا من فاكهة أو حلوى !