الآن ونحن على مشارف البرلمان الجديد، برلمان ما بعد الثورة، نعرف وندرك أننا اختزلنا مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية فى أنشطة وقرارات وأعمال ضارة أكثر منها نافعة، فقد كان الهدف الحقيقى لها هو إخماد شعلة الثورة وإضعاف الحالة الثورية، وكبح تقدم مسيرة الثورة نحو أهدافها المعلنة، وسواء نجحت هذه الخطة أم تقترب فالنتيجة الواضحة أننا لم نحقق استحقاقات تحول الدولة الشمولية المحكومة بحزب واحد إلى دولة ديمقراطية يتم فيها تداول الحكم بين أحزاب متعددة العقائد والاتجاهات والبرامج والأهداف. أسابيع قليلة وسيتولى برلمان منتخب، بصرف النظر عن مدى الرضاء عن طريقة وأسلوب وظروف الانتخابات، ومن الطبيعى أن تتولى الأغلبية المنتخبة تشكيل الحكومة سواء فى ظل الإعلان الدستورى الحالى أو بعد وضع دستور جديد.. والسؤال هو: هل سيرث الحزب الحاصل على الأغلبية تركة الإعلام الحكومى فى الدولة السلطوية السابقة؟ فينتقل التليفزيون والإذاعة ووكالة الأنباء الرسمية والجرائد اليومية الكبرى والمجلات الأسبوعية من مؤسسات فى خدمة الحزب الوطنى السابق.. إلى خدمة أيديولوجية الحزب الفائز بالأغلبية؟! وهل يتحكم الحزب الحاصل على الأغلبية فى التعليم وسياساته ومناهجه وطريقة بناء وتكوين العقل والشخصية المصرية؟! وهل ستتبع هيئات الثقافة المختلفة التابعة لوزارة الثقافة أفكار المنتصرين فى صناديق الانتخابات؟! الطبيعى فى الأنظمة الديمقراطية أن لا تمتلك الدولة وسائل إعلام، وبافتراض ملكية الدولة لهيئة مثل هيئة الإذاعة البريطانية «B.B.C» فإنها تكون مستقلة غير تابعة للحكومة المنتخبة، فهى لن تبشر بالاشتراكية إذا تولى الحكم حزب العمال أو بالليبرالية الحديثة أو القديمة عند فوز المحافظين أو الأحرار. وهل يقرر مناهج التعليم وزير قادم من حزب له عقيدة دينية ثابتة ينوى تطبيقها على كل مناحى الحياة، بداية من درجة اختلاط الرجال والنساء ومدى التزام المواطن الفرد بالطقوس الدينية والمحرمات الأخلاقية؟ وهل سيدرس تلاميذ المدارس أن بداية التاريخ الإنسانى هى نزول آدم وحواء من الجنة إلى الأرض، أم نظريات التطور العلمية؟ وهل سيبدأ تاريخ مصر من الفتح الإسلامى أم من ما قبل الدولة القديمة؟ وهل سنعتبر الحضارة الفرعونية حضارة عفنة كافرة أم إضافة مهمة للبشرية؟! أما فى الثقافة فأغلب الإنتاج الثقافى تقوم به الدولة ممثلة فى وزارة الثقافة، فالدولة هى المنتج الوحيد للمسرح والموسيقى السيمفونية والأوبرا والباليه وتراث الموسيقى العربية الكلاسيكية، وهو نفس الوضع فى الباليه وفرق الرقص الأخرى، والدولة أيضا تقدم دعما ملحوظا للفن التشكيلى عن طريق التبادل الثقافى والمهرجانات والمعارض وبرامج الاقتناء، أما فى السينما فالدولة هى المسؤولة عن الثقافة السينمائية والأرشيف ودعم المهرجانات، بالإضافة إلى أنها تقدم دعما مترددا على استحياء، كذلك تتدخل هيئات الدولة إلى حد كبير فى مجال النشر مقدمة عددا من عيون الكتب المترجمة والمؤلفة. دعونا نتصور أن تتكون حكومة من أصدقائنا السلفيين مثلا.. بل حتى لو شكلوا كتلة كبيرة تملك القدرة على الضغط.. وهو ما سيحدث فى البرلمان القادم.. فكيف سيتعاملون مع الموسيقى والغناء والأوبرا؟ وبالطبع لا داعى لذكر الباليه أو فرق الرقص الأخرى، ثم ما المتاح فى التشكيل والمسموح به سواء فى نحت الأوثان أو تصوير البشر؟ ثم ما وضع المتاحف التى تضم ثروات مصر الفنية بما فيها من لوحات لنساء غير محجبات أو محتشمات فضلا عن العاريات. أما السينما والمسرح والأغانى فسوف يتولى أمرها جهاز شرطة الأخلاق أو الرقابة على المصنفات الفنية -وهو بالمناسبة جهاز للرقابة على الفكر- وسينظر الرقباء والرقيبات فى الأفكار المقدمة ليقرر الأفكار التى يمكن التصريح بها والتى تستطيع بقليل من الخيال معرفة حدودها. هل ستسمح بوجود النساء مع الرجال على شاشة السينما أو فوق خشبة المسرح؟ بالطبع لا داعى للتفكير فى ألبسة البحر ولكن هل يمكن يقبل رجل حبيبته أو حتى يمسك شاب بيد صديقته؟ وأرجوكم راجعوا آخر فتاوى الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل بخصوص وجود رجل وامرأة فى مكان عام مثل الكوفى شوب.. وبالطبع فعلاقات الحب ممنوعة سواء كانت حبا فى الحرام أو الحلال. الخلاصة.. أرجو أن ينتبه المصريون لخطورة الوضع الناشئ عن التحول إلى الديمقراطية وتبادل السلطة فى دولة تم بناؤها لكى تكون دولة شمولية، فالديمقراطية ليست مجرد صندوق انتخاب، إنها أيضا حرية الفكر والإبداع والتعبير، وهى بناء للعقل العلمى الناقد والمبدع والقادر على الفرز والاختيار وهى القدرة على الحصول على المعلومات الواضحة والدقيقة والأمنية. لذلك أدعو جميع فئات الشعب المصرى لا مجرد المثقفين وجميع القوى السياسية من اليسار والقوميين والليبراليين حتى الإسلاميين العصريين إلى دعم حملة لإعادة تشكيل مؤسسات الدولة على أساس جديد.. وأقترح مبدئيا فى مجال الثقافة -وهو المجال الذى أعمل به- أن يتم إلغاء وزارة الثقافة وأن يقوم المجلس الأعلى للثقافة بمهام الوزارة الخدمية والإنتاجية بعد تحويله إلى هيئة تابعة للدولة ومستقلة من الحكومات المنتخبة، على أن يلغى القانون الحالى للرقابة على المصنفات الفنية، بحيث تصبح جهازا مستقلا لا يمارس مهمة الرقابة على الأفكار وإنما يحدد مراحل عمرية لمشاهدة الأفلام والمسرحيات. وعلى المتخصصين فى مجال التعليم والإعلام تقديم اجتهاداتهم ورؤيتهم لتجاوز الوضع الحالى.