للأستاذ نجيب علاقة حب قديمة مع مدينة الإسكندرية، فقد اعتاد منذ صغره على قضاء جزء من الصيف على شاطئ عروس البحر الأبيض، وكان يحكى لنا أنه فى مرحلة الشباب، كان أبوه يعطيه عشرة جنيهات، وهى مبلغ يكفى فى ذلك الوقت لقضاء شهر كامل مع أصدقائه فى الإسكندرية! وكانت لتوفيق الحكيم ندوة يومية فى الإسكندرية، يعقدها فى فصل الصيف، فى كازينو «بترو». وقد واظب الأستاذ على حضورها طوال شهر كامل، اعتاد أن يقضيه فى الإسكندرية. وكان من رواد هذه الندوة: السياسى الكبير إبراهيم فرج، والأديب ثروت أباظة، والأديب د.يوسف عز الدين عيسى، وغيرهم. وعلاقة محفوظ مع الحكيم بديعة، فالحكيم محب للكلام جدا، والأستاذ بطبيعته قليل الكلام، ومن ثم فقد كانت جلساتهما عبارة عن حكايات متواصلة من الحكيم، وتعليقات قليلة من الأستاذ! ويوما سألته: ألا تمل من سماع حكايات الحكيم، خصوصا أنه كثيرا ما يكررها؟ فأجاب: لا أمل، طريقته فى الحكى جميلة، وشخصيته جذابة، وروحه حلوة. وللأستاذ نجيب حكايات كثيرة عن الإسكندرية، أهم ما فيها وصفه لجمالها الآخاذ فى الثلاثينيات والأربعينيات، إذ كانت مدينة «كوزموبوليتان»، أى مدينة متعددة الأجناس والأعراق والطوائف والديانات، وكانت تعد من أجمل مدن حوض البحر الأبيض، حتى أوحى جمالها إلى لورانس داريل أن يكتب عمله الخالد «رباعيات الإسكندرية». وقد حضر محفوظ إلى الإسكندرية قبل بناء الكورنيش على شاطئ البحر، وكان يقول: حتى الديكتاتور زمان -وكان يقصد إسماعيل صدقى- كانت له أعمال طيبة! وبعد رحيل توفيق الحكيم، استمرت ندوة الإسكندرية، وإن تغير مكانها، إذ انتقلت إلى حديقة فندق سان استيفانو، المطلة على منظر رحب للبحر الرائع، وكانت هذه الندوة تعقد يوميا طوال وجود الأستاذ بالإسكندرية، فقد قرر فى الثمانينيات أن يقضى أسبوعا فى القاهرة، وآخر فى الإسكندرية، طوال شهور الصيف. وهذه الندوة كانت تختلف اختلافا كبيرا عن ندوة قصر النيل بالقاهرة، فقد كانت تتصف بالمرح والفكاهة والضحك فى معظم الأحيان. وكان الأستاذ يضحك من كل قلبه على النكات، والقفشات، والحكايات المضحكة التى تستوعب أغلب وقت هذه الجلسة المسائية الجميلة. وكنت أسأل الأستاذ عن سبب اختلاف جو الندوة فى الإسكندرية عن ندوة القاهرة، فيقول: الناس هنا حضرت لتجلس فى الهواء أمام البحر، لكى ترتاح من تعب العام، وعناء العمل، ولا بد أن يمرحوا ويضحكوا وينسوا همومهم قليلا. ولأن الأستاذ كان يعمل كثيرا جدا، لذلك كان يهتم اهتماما كبيرا بفكرة الإجازة، أو الراحة، أو الاستجمام، إذ من دونها لا يمكن للإنسان أن يستعيد نشاطه، ويعود إلى عمله الجاد. وكان الأستاذ يتابعنى، وأنا أعمل وأدرس فى نفس الوقت، وإجازتى السنوية كلها آخذها فى أيام الامتحانات، فكان ينبهنى إلى ضرورة أن أحرص على فترات من الراحة والهدوء والاستجمام.